طلال سلمان

على الطريق الأوهام والأوطان

من قال إن السياسة ضد الخيال؟
على إن أي خيال كان، حتى عام مضى، أعجز من أن يتصور رحلة أسطورية كالتي حققها الدكتور هنري كيسنجر يوم أمس: تغدى على مائدة رابين في تل أبيب، وتناول الإفطار على مائدة الملك فيصل في جدة، ثم “تسحر” على مائدة اسماعيل فهمي في القاهرة… فرمضان كريم و”العزيز هنري” من أهل الكتاب، والمؤمنين بالأديان السماوية كما قال العاهل السعودي في حديثه الصحفي الأخير.
أما الحديث الآخر الذي أكدت وقوعه صحيفة “الصنداي ميرور” البريطانية، وهو اجتماع الملك حسين مع إسحق رابين، رئيس حكومة إسرائيل، برعاية الدكتور هنري كيسنجر وأشرافه، فليس فيه من الخيال وبريقه أكثر ما فيه من ثقل الواقعة ومحدودية المتوقع، سواء أتم فعلاً أم لم يتم.
وهذه هي السياسة: ليست خيالاً بالكامل وليست أيضاً حقائق وأخباراً ووقائع فحسب. إنها مزيج من هذا جميعاً، والأنجح فيها هو الأبرع في المقايضة: يعطي وهماً مقابل واقعة مادية محسوسة، ويبيع رائحة الشواء بالذهب نفسه وليس برنينه (مع تساهل في موضوع اللون، فالأميركان ليسوا عنصريين مع الذهب ومن هنا فهم يقبلونه أسود)..
وهكذا فإن كيسنجر جاء يبيع العرب بعض الأوهام الإضافية عن سلام الأيام الآتية مقابل “قليل” من الأراضي و”قليل” من السكان و”قليل” جداً من النفط!
أما إسرائيل فإنه يعطيها سلاحاً إضافياً جديداً هو موقف الأردن، بغض النظر عن صحة خبر”الصنداي ميرور” أو عدم صحته، كما يعطيها “قليلاً” من الوقت لإعداد نفسها لتلك الأيام الآتية وسلامها العتيد، و”قليلاً” من السلاح والمساعدات الاقتصادية، لزوم السلاح، فالسلام غال جداً يهون أمامه كل ما عداه!
وعلى الرغم إنه ما زال بين العرب من يقبل الأوهام ويقبضها، فإن كثرتهم الساحقة لم تعد كذلك، أو هي بالأحرى لم تكن كذلك، والذين عاشوا ردحاً من الزمن على الأوهام الأميركية ومعها بدأوا يعودون إلى شيء من وعيهم بشميم الدم الذي غطى الأرض بين القنيطرة والقنطرة، وبفعل الوقائع المادية “البسيطة” التي تمكن الساحر من إخفائها عن عيونهم وحدهم في أكمامه، خلال رحلاته الأولى…
ذلك إن الأيام قد أتت، وابتعدت الحرب، لكن السلام ظل بعيداً، بل لعله لم يكن في أي يوم على مثل هذا البعد… وخلف السلام، وبعده، مشاريع التعمير والطموح إلى الرخاء والازدهار الاقتصادي…
والأراضي والبشر ليست، في خاتمة المطاف، شيئاً آخر غير الأوطان،
والنفط ليس شيئاً مقطوع الصلة بالمستقبل العربي،
وفلسطين في هذا وأولئك وتلك..
وكيسنجر يمكنه أن يطير كثيراً، ولكنه في لحظة ملامسته الأرض سيرتطم، ومعه من معه، بهذا جميعاً…
ولا ضرورة للخيال في تصور ما سينتج عن الارتطام: فالأوطان لا تلغيها الاتفاقات، سرية كانت أم علنية، وكائنين من كانوا حكامها، وبالغة ما بلغت شطارة المشتري اليهودي!

Exit mobile version