طلال سلمان

على الطريق “الأمير” شامير يحصد الثمار!

إذا كان مؤتمر مدريد هو إنجاز أميركي “تاريخي”، فإن مؤتمر موسكو الذي يبدأ أعماله اليوم هو إنجاز إسرائيلي تاريخي أساساً، حتى لو كانت الولايات المتحدة الأميركية هي الداعية والاتحاد الروسي هو المضيف، وبعض أوروبا مع كندا واليابان هي بعض شهود الحال، وبعض عدة التسويق والترويج والتمويه الضروري.
إنه أخطر من كمب دي ف يد على العرب عموماً وفلسطينهم خصوصاً، إذ هو يذهب بهم بعيداً من الصلح المنفرد (الذي “كان” يكاد يعادل الخيانة العظمى) إلى الصلح الجماعي الذي يدمغ رافضه بتهمة الخروج على “أهله” و… النظام العالمي الجديد!
فـ “العربي” الذاهب إلى كمب ديفيد عوقب بالمقاطعة الدبلوماسية والطرد من جامعة الدول العربية، ونقل مقرها من عاصمته، أما على المستوى الشعبي فكان العقاب أشد، وما اغتيال السادات إلا توقيع للجزاء العادل على من خرج على إرادة الأمة، على الأقل في نظر جمهور واسع جداً من المصريين وسائر العرب.
أما “العربي” الذاهب إلى موسكو فيباهي بأنه إنما يمثل الأكثرية (على المستوى الرسمي!!)، ويكاد يحاسب المقاطعين ويأخذ عليهم التفريط بالحقوق القومية!
وحده الإسرائيلي يتصرف كمنتصر أوحد، معتبراً – كما قال شامير – “إن إسرائيل تحصد الآن الثمار الدبلوماسية والاقتصادية لمحادثات السلام الخاصة بالشرق الأوسط، والتي ساعدتها على الخروج من عزلتها الدولية”.
فالمؤتمر، وأيضاً بشهادة شامير، “يتيح لإسرائيل فرصاً غير مسبوقة”، و”يعزز موقفها”، و”يوفر احتمالات مغرية أمام المستثمرين في الداخل والخارج”!!
وبديهي إنه ما كان ممكناً انعقاد هذا المؤتمر لو أن موسكو ما تزال هي موسكو، عاصمة الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية والشيوعية الدولية والسند العظيم لحركات التحرر في مختلف أنحاء العالم،
وبديهي أيضاً أن مثل هذا المؤتمر ما كان لينعقد لولا الهزيمة العربية في حرب الخليج، والتي كانت ذريعتها مغامرة صدام حسين الحمقاء في الكويت،
وبديهي أيضاً وأيضاً أن مثل هذا المؤتمر كان مستحيلاً انعقاده لو أن الجزائر كانت بعافيتها بعد، ولو أن الجماهيرية العربية الليبية لم تستفرد فتعزل وتطارد باسم الشرعية الدولية،
… ولو أن الانتفاضة داخل الأرض المحتلة طورت شعارها وأسلوب عملها برعاية عربية مسؤولة وقادرة، وبقيادة فلسطينية أقل تورطاً في مغامرة صدام وأكثر التزاماً بموجبات قضيتها الثقيلة الوطأة لقداستها.
باختصار فإن مؤتمر موسكو احتاج سلسلة من الهزائم العربية، إضافة إلى هزيمة دولية ساحقة دمرت الاتحاد السوفياتي وأنهت وجوده.
لكن بعض العرب تقدموا فتبرعوا بهزيمة جديدة، أوجع وأبقى أثراً من كل ما تقدم، حين وافقوا على المشاركة في هذا المؤتمر “متعدد الأطراف”، سلفاً وبغض النظر عن موقف الأطراف العربية المعنية به والمتضررة من انعقاده.
إنه مؤتمر “يدول” الانقسام العربي ويثبته ويكرسه قانوناً نافذاً وقاعدة ملزمة للعلاقات العربية – العربية في المستقبل،
وهو مؤتمر يتجاوز إلغاء عروبة فلسطين إلى إلغاء فلسطينية الفلسطينيين، بينما هم يلحون في الطرق على بابه طالبين الدخول ولو من باب اللاجئين فيرفضون.
إنه يلغي عروبة العرب جميعاً. فالسعودي سعودي، والكويتي كويتي، والأردني أردني، والبحريني بحريني، والعُماني عُماني… تماماً بقدر ما هو الإسرائيلي إسرائيلي، مع فارق جوهري: إن الإسرائيلي قد يكون أميركياً وقد يكون روسياً وقد يكون أيضاً يمنياً وعراقياً ومغربياً ولبنانياً الخ، فلا يخسر إسرائيليته أو حقه في إقامة مزيد من المستوطنات على الأرض العربية المحتلة الآن أو التي سيحتلها مستقبلاً.
وحده الإسرائيلي هو صاحب الحق بأرض مفتوحة وبهوية مفتوحة وبسماء مفتوحة وباقتصاد مفتوح وبقدرات عسكرية مفتوحة الخ…
إنه، عبر هذا المؤتمر، شريك للعربي – كل عربي – في ما يملك، كل ما يملك، في البر والبحر والجو، مجاناً، وبلا أي التزام من جانبه بأي شيء!
وهو سيتسلح بنتائج هذا المؤتمر، الذي غاب عنه المعنيون والمتضررون بهذه النتائج، أي السوري واللبناني (والفلسطيني، برغم حضوره الشكلي)، ليستخدمها غداً ضد هؤلاء المعنيين بالذات لابتزازهم في أرضهم وحقوقهم فيها، باسم “المجتمع الدولي” عموماً وباسم أطراف لا يرقى إلى “عروبتها” الشك خصوصاً وإن ممثليها جميعاً يعتمرون الكوفية والعقال ويلتحفون العباءات العربية المقصبة الجنبات!
وطريف أن تكون ذريعة السعوديين ومن معهم من أجل الخليج إنهم إنما يريدون الانتقام من صدام حسين ، فيعاقبون من وقف ضده وقاوم غزوه، أي سوريا ومعها لبنان،
أما أن يعاقب شعب فلسطين (في الداخل والخارج) بحجة الانتقام من تكتيكات أو سياسات خاطئة لياسر عرفات فهي ذريعة أكثر مأساوية من أن تقبل كطرفة وهو تلفيق أبشع من أن يغطي الفعل الشنيع الذي يرتكب الآن في موسكو.
وليس الأمر أن بعض العرب “من بيت أبيهم يضربون”، ولكنه أقرب إلى ذاك الذي أراد أن يغيظ امرأته فجدع أنفه!!
ولعلها أول مرة في التاريخ يدفع فيها المفرط في أرضه والمتنازل عن حقوقه “دوطة” أو رشوة للمغتصب والمحتل ويلح عليه أن يقبلها، مع الاعتذار عن تأخره في الدفع “لأسباب قاهرة”!
إنه مؤتمر يحضره من العرب أولئك المهزومون سلفاً، والذين كانوا كمن ينتظر هزيمة قومية شاملة ليستسلموا فيرتاحوا من عبء “مواجهة” لم يلتزموا بها في أي يوم.
وهؤلاء هم ذاتهم الذين تجد بصماتهم على مجمل الهزائم العربية والحروب العربية الخاسرة وبينها حرب صدام حسين ضد غيران، وقد مولوها بالكامل، ولعل دورهم فيها هو الذي أغراه بالكويت، بكل ما نجم عن غزوته الحمقاء تلك ومؤتمر موسكو بين النتائج وليس آخرها!
وإذا كانت عاصفة الصحراء قد جعلت من الرئيس الأميركي “شيخ مشايخ العرب”، فصوره بعض ظرفاء الرسامين بالزي العربي التقليدي، فالأرجح أن يعود وزير خارجية إسرائيل ديفيد ليفي من موسكو بهدايا عربية ثمينة تجعل شامير “أميراً عربياً” بكوفية حمراء وعقال ملكي!
… والصلح الجماعي يستحق مثل هذه الرتبة السامية!

Exit mobile version