طلال سلمان

على الطريق الأسطول لا يعوّض الفشل السياسي!

قد تكون النوايا الفرنسية تجاه لبنان طيبة، خصوصاً وإن بين اللبنانيين من يقيم قداساً في كل عام على نية فرنسا،
وقد تكون مقاصد الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران غير خبيثة وتكتيكية وآنية، ومتصلة بمطامحه الشخصية أكثر من اتصالها بالمواجع العربية في لبنان،
وقد يكون تهور رئيس حكومته ميشال روكار في الحديث عن لبنان مسلكاً طبيعياً من زعيم طلابي ومهيج جماهيري لم تصقله التجربة ولم يحمل إليه المنصب الفخم الوقار المطلوب والحنكة السياسية الضرورية عند معالجة مسائل متفجرة وأوضاع مأساوية كالتي يعيشها اللبنانيون،
قد يكون السبب توكيد الادعاء القديم بأن لفرنسا دوراً خاصاً في لبنان، ومن ثم في المشرق العربي، مدخله “الطبيعي” ترسبات “المسألة الشرقية” التي من عناوينها “حماية الأقليات” الدينية والطائفية وبالتالي العرقية في منطقة تتكون – أصلاً – من فسيفساء من الأقليات تشكل باستمرارها وبدورها وبحضورها الدائم شهادة للأكثرية وتزكية لاعتناقها التسامح والحرص على “الآخر” تطبيقاً لتعاليم دينها وليس على حسابه،
فإذا صح هذا الظن تصبح المشكلة فرنسية: إذ كيف يمكن أن تنجح فرنسا في أن تكون في آن صديقة حميمة للأكثرية، تبيعها السلاح والتقنية ومواد التجميل، وأيضاً “حامية” بقوة الأسطول “للأقلية” أو “الأقليات” التي تضطهدها تلك الأكثرية الصديقة؟!
… وكيف يمكن أن تأخذ فرنسا حقوق الدولة الأكثر رعاية من نفط العرب وصفقاتهم ومشاريع التنمية الضخمة في بلادهم في حين يتوجب عليها حربهم من موقعها كالابنة البكر للكنيسة الكاثوليكية وحامية حمى الكاثوليك في الشرق، إن لم تكن حامية المسيحيين جميعاً وسائر الأقليات وصولاً على اليزيدية والصابئة وأتباع زراداشت؟!
وقد يكون السبب الفعلي مرتبطاً بالغل الفرنسي على “النجاح” الأميركي الكاسح في المنطقة، والذي ألغى – أو حجم – أدوار الآخرين جميعاً، سواء أكانوا خصوماً تقليديين، كالسوفيات، أم حلفاء كالفرنسيين،
فليس سراً أن فرنسا ديستان، ومن بعدها فرنسا ميتران (وأية فرنسا أخرى)، قد تجرعت كأس المرارة طافحاً من يد أصدقائها الأميركيين، وهم يجهضون كل مبادرة تطرحها ويسفهون اقتراحاتها للحلول، بدءاً بعقد طاولة مستديرة للبنانيين فيها وانتهاء ببدعة المؤتمر الدولي حول لبنان،
وليس سراً أن فرنسا ميتران عانت ضيقاً مزعجاً من تجاهل الأميركيين المطلق لدورها الخاص وعلاقتها التاريخية في لبنان ومع اللبنانيين،
ولم يكن مما يسر، في أي حال، أن يقبع كبار المسؤولين الفرنسيين في ظلام الجهل بنتائج المفاوضات التي كان يجريها الموفدون الأميركيون مع السوريين حول لبنان، على فترات، في حين إن هؤلاء الموفدين يتخذون من باريس بالذات محطة لاستكمال الملف والاتصالات مع من لا يستطيعون لقاءهم في دمشق من الأطراف المعنيين، عرباً وغير عرب.
كذلك ليس سراً أن فرنسا ميتران فشلت في أن تعقد صفقة مع سوريا الأسد حول لبنان منطلقها أن لكلتي الدولتين “علاقة مميزة” مع لبنان في حين إن الأميركيين السذج طارئون على الموضوع وعلى السياسة وجهلة في أصول التعاطي مع الأمور الدولية البسيطة فكيف بوضع شديد التعقيد كالوضع اللبناني،
لقد رفضت دمشق هذه المقولة التي لا تجد سنداً إلا في تراث الحقبة الاستعمارية لفرنسا، وهي حقبة يفترض أن يبرأ رئيس اشتراكي كميتران من تركتها الثقيلة وذكرياتها المستفزة والمهينة للشعوب المعنية بها ومن بينها الشعب السوري الذي صار – بفضلها – شعباً واحداً في دولتين، هما الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية، على حد تعبير الرئيس حافظ الأسد.
على إن هذا كله لا يبرر اللجوء إلى لغة الأساطيل، خصوصاً وإن الفرنسيين لا يتقنونها تماماً، إضافة إلى كونها – بذاتها – لغة بائدة لا يلجأ إليها إلا الفاشل في السياسة أو المهووس بالقوة كطيب الذكر رونالد ريغان.
ومؤكد إن التلويح بالأساطيل أو تحريكها لن يزيد من دور فرنسا، بل لعله سينقص منه، وسيشطبها كقوة محايدة كان محتملاً أن تعطى دوراً ما في الصياغة الأخيرة للحل،
لن يخاف الأميركيون من الأسطول الفرنسي فيسلمون لها بما لم يسلموا به قبل خمس عشرة سنة أو يزيد،
ولن يزيد من مخاوف اللبنانيين (ومن بعدهم سوريا) أن ينضم الأسطول الفرنسي إلى الأساطيل الأخرى (الأكبر والأضخم والأغزر ناراً) التي تحوم حول بلادهم الممزقة والنازفة، كالغربان الجائعة،
إضافة إلى أن الخوف ليس طريق الحل أو السلام،
وأغلب الظن إن فرنسا هي الخائفة الآن من تورطها، أو هكذا يفترض أن تكون،
والخدمة الوحيدة التي يمكن أن يؤديها اللبنانيون (والسوريون) لفرنسا هي في الامتناع عن تقصد الاصطدام بها وإجبارها على مواجهة ستكون كارثة عليها، لو حدثت،
الخدمة أن يكون اللبنانيون (والسوريون) أرحم بفرنسا من ساستها،
ولقد نجح مسؤول فرنسي كبرنار كوشنير، ذات يوم، في أن يمسح بعض الأخطاء الفادحة للسياسة الفرنسية إزاء لبنان والمنطقة، مما يؤكد إن الدور متاح إذا ما روعيت حقائق المنطقة ومشاعر أهلها وكرامتهم الوطنية والقومية،
فباب النجدة مفتوح لكل راغب في إغاثة اللبنانيين، الذين يحتاجون كل أنواع العون، ما عدا “العون” القابع في الطابع الثالث تحت الأرض في الملجأ الجمهوري في بعبدا،
ومن نجح سياسياً بالأطباء بلا حدود، وبأطباء العالم، وبرسل الرحمة والمساعدة الإنسانية، لماذا تراه يندفع بحماسة نحو الفشل ممتطياً ظهر أسطول أعرج يخيف أصحابه أكثر مما يخيف أعداءه، أو من أجبروا على أن يكونوا أعداء لصاحب القرار بتحريكه؟!
ولبنان باق ملاصقاً لسوريا ومكملاً لها، هو بعضها وهي ملاذه وأولى أهله برعايته في محنته،
أما الأساطيل فقطع من الحديد العائم تأتي بها موجة وتذهب بها أخرى، وقد تغرقها الريح الصرصر كما يغرقها الغضب الجارف سواء أكان منشؤه – بالرعونة – فرنسياً، أم كان – بالثأر للكرامة المسفوحة – عربياً،
وليست فرنسا مضطرة لركوب هذا المركب الخشن، فلا “النبل يوجب” ولا إثبات الأهلية بزعامة أوروبا وبالتالي بموقع الدولة الثالثة العظمى سيتحقق عبر رحلة الموت هذه،
… ثم إنه لا مكان لدولة ثالثة عظمى، بل الجدل دائر، في هذه اللحظة، حول “الثانية”،
فلماذا يريد ميتران أن يكون – مرة أخرى – ضحية أصدقائه الأميركيين بينما هو يفترض أنه – بنفش ريشه – قد صار شريكهم المهاب؟!

Exit mobile version