طلال سلمان

على الطريق الأسئلة الساذجة… أيضاً وأيضاً: عن مستقبل الحكم والدولة والوطن

… والأسئلة الساذجة لا تنتهي لأنها تتصل بموضوعات ومشاكل ومسائل كان يفترض أن تجد حلولها منذ زمن بعيد، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وعلى العكس خلق غياب الحلول أو إرجاؤها أو تعليق النفوذ مشاكل جديدة أخطر من تلك التي كانت قائمة.
1 – الوفاق الوطني:
لقد كان الوفاق موضوعاً قابلاً للحل ذات يوم، وكان المناخ صالحاً ومواتياً تماماً، لكن الدولة ترددت بحجة الخوف من عدم النجاح وانعكاساته السلبية، فكانت النتيجة إن ضاعت الفرصة وتحول “الوفاق” إلى أسطوانة ممجوجة وجهها الآخر – المشروخ – هو الحديث الأبدي عن الأمن.
وكان من حق المواطن العادي أن يرى في موقف الدولة المغلب لموضوع الأمن (حتى يوم كان مستتباً) على كل ما عداه انحيازاً سافراً منها لمقولة بيار الجميل الشهيرة: الأمن أولاً!
واستغرب هذا المواطن من الدولة انسياقها الكامل مع هذه المقولة بحيث أغرقت نفسها في الحوادث اليومية التي تعرف – أو يفترض أن تعرف – إن معظمها مفتعل وبهدف محدد هو صرف الدولة عن الموضوعات الأساسية التي يساعد التصدي لها على إرساء الأسس المطلوبة لإعادة بناء الوطن وأولها الحل السياسي المتكامل لمختلف جوانب المسألة اللبنانية.
فكيف يمكن توفير الأمن إذا لم تنظم وتقنن العلاقات اللبنانية – السورية، والجيش السوري يتحمل مسؤولية خاصة ورئيسية في حفظ الأمن وتوطيده في لبنان؟!
والعلافات اللبنانية – السورية قضية سياسية من الدرجة الأولى، وليست إجراء أمنياً.
وكيف يمكن توفير الأمن بمعزل عن اتفاق سياسي محدد وواضح مع منظمة التحرير الفلسطينية يعيد تنظيم وتقنين العلاقات اللبنانية – الفلسطينية في ضوء نتائج الحرب وما أفرزته من آثار؟!
ثم كيف يمكن توفير الأمن والميليشيات جيوش تملك أسلحة وإمكانات للتفجير والتدمير، ولا وجود للضابط السياسي لها في غياب موقف حاسم من الدولة إزاء قياداتها وأحزابها ومصادر تمويلها وتسليحها وتدريبها؟!
وحده القرار السياسي من حكم يريد أن يحكم ويمارس سلطته الشرعية على البلاد يستطيع أن يواجه هذه الميليشيات، لأنه هو المسؤول عن الوطن وبنيه حاضراً ومستقبلاً، ولأنه هو “المرجع” و”مصدر السلطات” جميعاً.
لقد توقع المواطن العادي أن تحدد الدولة موقفها، وأن تطرح تصورها لإعادة بناء البلاد فمن والاها ووقف معها شارك في تحمل المسؤولية، ومن رفض هذا التصور عارض، فإذا لجأ إلى القوة جبهته بالقوة وأخضعته، خصوصاً وإن العالم كله كان معها والعرب كلهم كانوا يجهرون بمساندتهم غير المشروطة لها، ومعظم الأطراف والقوى السياسية كانت تعلن وتلزم نفسها بتأييد الدولة ودعمها.
ولم يتصور المواطن العادي، أبداً، أن يتم الوفاق عبر مصالحة يتعانق فيها حملة السلاح في الخندقين المتواجهين لأكثر من سنتين فجأة وبلا مقدمات وبغير أساس سياسي واضح ومتين ومحقق لطموحات المقاتلين في الجانبين الذين لا يمكن أن يكونوا حملوا السلاح لمجرد الهواية أو الهوس أو الرغبة في زيادة الدخل.
غير أن الحكم لم يطرح شيئاً. همس ببعض الأفكار في آذان بعض السياسيين فلما أبدى واحد منهم اعتراضه جمد الحكم حركته منتظراً “الظروف ” المواتية.
وذات مرة رأى الحكم إن الظروف المطلوبة قد توافرت فهم بطرح الوفاق، لكن الرافضين للدولة نفسها أطلقوا زخات رصاص على بعض المحاور الساحنة، فقنع الحكم من مشروعه بسلامة الانسحاب.
ومرة ثالثة هم ثم ارتد لأن العدو الإسرائيلي اجتاح الجنوب.
ومرة رابعة عدل عن المحاولة لأن السادات زار القدس المحتلة.
ومن المؤسف إن الكرة الأرضية لا تكف أبداً عن الدوران، وإن الأحداث لا تتوقف، وإن الدول لا توقف صراعاتها فوق أرض لبنان لتتيح لدولته أن تحقق الوفاق فيه بهدوء وراحة بال.
وهكذا ظل الوفاق حلماً بعيد المنال، ولم يتحقق الأمن بطبيعة الحال، لأن الذين لا يريدون الوفاق هم هم الذين لا يريدون دولة ولا أمناً… اللهم إلا إذا ألغت الدولة نفسها حيث هم وتركت لهم أن ينظموا أمنهم ذاتياً!
2 – صورة المستقبل.
لا يستطيع الحكم أن يدعي أمام المواطن العادي أنه قد أعطاه تصوراً، ولو أولياً للمستقبل.
لا في الرسائل الرئاسية العديدة، ولا في الوثائق والصيغ النيابية، ولا في المشاريع الأولية للوفاق، تحددت ملامح المستقبل.
طبعاً كان هناك تركيز مشكور على الأساسيات: وحدة لبنان أرضاً وشعباً ومؤسسات، دور لبنان العربي، رفض التوطين والتقسيم الخ.
لكن هذه المبادئ ظلت تسبح في فراغ، وستظل على هذه الحال ما لم تقم الدولة بإثبات وجودها أولاً، لأن هذا الوجود هو الذي يحفظ وحدة لبنان ويحقق سيادته ويقنن علاقاته العربية بما يؤكد انتماءه القومي، وينظم علاقاته الدولية بما يؤكد استقلاله.
إن رفض التقسيم لم يحل دون وقوعه، بهذا الشكل أو ذاك، وواقع الأمر الآن إن في لبنان مجموعة من “الكانتونات” تغلفها قشرة رقيقة من الاعتراف الخجول بالانتماء إلى الجمهورية اللبنانية التي حدودها من الناقورة إلى النهر الكبير.
والتمديد لمجلس النواب، بوصفه مصدر التشريع، لم يفد كثيراً في إعطائه دوراً أساسياً في بناء البلاد، ليس لأن رصاص القنص يمكن أن يعطله في أية لحظة، بل لأن الدولة لم توظف شرعيته في خدمة أهدافها تحقيقاً لصورة المستقبل الذي يريد.
ويبقى، في ذهن المواطن العادي، سيل من الأسئلة الساذجة ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:
-لماذا استقرت للحكومة صورة غير صورة الحكم، فهو يراها، من خلال رئيسها تحديداً، راغبة في الإنجاز متحمسة له، ويراه غير راغب أو غير متحمس أو على الأقل غير متعجل وكأنه ينتظر “غودو” الذي لن يأتي أبداً؟!
إن المواطن العادي يعرف أن رئيس الدولة هو صاحب المصلحة الأول في وجود دولة، وهو المتضرر الأول من غيابها، ولكنه لا يستطيع أن يقبل الأعذار والتبريرات التي تروج بين حين وآخر في مجال الاعتذار عن التأخر في بناء الدولة بسبب الانهماك في ما هو أهم!! أو بسبب “ترقب” الظروف المناسبة التي اكتسبت ملامح المعجزات والخوارق بحيث لا يوجد مصدر لها غير السماء!
-لماذا هذه المسافة بين الحكم والحكومة؟ وبين الحكم والمجلس؟ وبين الحكم ودمشق؟ وبين الحكم والفلسطينيين؟ وبين الحكم والمنطقة الغربية؟! ثم أخيراً بين الحكم و”الجبهة اللبنانية”، دون أن ننسى المسافة المتزايدة يوماً بعد يوم بينه وبين أقطاب الموارنة خارج “الجبهة” من البطريرك خريش إلى سليمان فرنجية إلى تكتل النواب المستقلين الخ؟!
-لماذا لا يملك الحكم ما يطرحه علناً على الناس، ولماذا لا تقول إذاعة الدولة شيئاً على الاطلاق، ويراعي التلفزيون تراتيبة البروتوكول الرسمي، في حين تقول الإذاعات الخاصة كل شيء وأول ما تقوله: إن لا دولة ولا من يحكمون!
-إن الحكم سعيد، اليوم، بالتهمة الموجهة إليه والقائلة إن الكل ضده، فلماذا إذن لا يتعامل مع الكل بما يحقق المساواة المفتقدة والتوازن المنشود؟!
-إن اهتمام الحكم منصرف الآن إلى تحقيق “مصالحة” بين دمشق و”الجبهة اللبنانية”، وهو يعتبر إن لا شيء يتقدم على هذه القضية، والسؤال هو: أليس للحكم نفسه مشكلة مع “الجبهة اللبنانية”، ومن تراه يمكن أن يحقق له مصالحة معها؟!
-إن الحكم يقول إن لا مشكلة له مع “المنطقة الغربية”، ولهذا فهو قليل التعاطي مع ناسها وقياداتها، فهل هذا التشخيص دقيق؟! وهل الوضع لا يزال كما كان قبل سنتين أو حتى قبل ستة شهور؟! ومتى يمكن أن يتنبه الحكم إلى أن مشكلته مع هذه المنطقة أكبر مما يظن؟!
والسؤال الأول والأخير والملخص لكل الأسئلة الأخرى المتبقية:
من تراه ينتظر وماذا وحتام؟!
وهل يمكن أن ينتظر الناس أكثر مما انتظروا ليقرروا في شأن هذا الحكم، وربما الدولة والوطن شيئاً آخر؟!
إن الحكم يقول صراحة إنه لو تمكن تسليم لبنان لخلفه، بعد انتهاء ولايته، بحدوده الراهنة لاستحق أن يدخل التاريخ.
ولكن السؤال: هل بهذه الطريقة تحمى جغرافية الوطن لكي ينفتح باب التاريخ أمام الرجل الذي حماها؟!
والجواب واضح وجلي، لاسيما في الجنوب.

Exit mobile version