طلال سلمان

على الطريق اكتشاف لبنان الآخر!

الكل يتبارى، الآن، في استعراض ثقافته واطلاعه على المعضلة الاجتماعية في لبنان، بأسبابها ومقدماتها وجذورها الضارية عمقاً في الواقع الاجتماعي – الاقتصادي، ثم بانعكاساتها السياسية.
الكل صار خبيراً في قضايا الصراع الطبقي.. وأعمدة الصحف واليمينية خاصة، وحتى الرجعية وتلك الناطقة باسم مؤسسات أو تنظيمات فاشستية، تفيض بالتعابير “المحظورة” في العادة على هكذا منشورات مثل: الفقراء والكادحين والمحرومين والمظلومين ، بل والبروليتاريا الرثة!
وفي الصحف أياها موضوعات تشغل صفحات عن مخيمات الفقراء “اللبنانيين” وعن “زنار البؤس” الذي يحيط بالعاصمة بيروت ويعيش فيه “المواطنون” حياة أكرم منها الموت.
ومع ترحيبنا بهذه البادرة التي تجسد “اكتشاف” الآخرين للحقيقة الكبرى في الوضع اللبناني، ومكمن الأزمة، فإن لنا جملة من الملاحظات على البادرة والاكتشاف ، منها:
أولاً – إن هؤلاء المكتشفين الذين ظلوا يرفضون الاعتراف بهذه الحقيقة حتى الأمس القريب، يحاولون مرة أخرى التعامل مع الأزمة بالتقسيط.. فهم يصرون على الفصل الكامل الشامل بين الجوانب السياسية للأزمة وجذورها الاجتماعية. وبهذا الفصل تصبح حكومة الأربعمائة سنة (مجموع أعمار الوزراء الستة)، والأربعمائة مليون ليرة (مجموع ثرواتهم، ما شاء الله) هي “المنقذ” و”الانقاذ”!
ثانياً – إن هؤلاء المكتشفين لا يزالون (أيضاً!) ضائعين عن السبب في فقر الفقراء واستمراره بل وتحوله إلى القاع. وحيرتهم تبدو مضحكة من خلال اقتراحاتهم للعلاج. إنهم يعترفون بالنازحين من ريفهم للاستقرار في تخشيبات التنك حول بيروت، لكنهم لا يجرؤون على مطالبتهم بالعودة إلى أريافهم (حيث إسرائيل والاضطهاد الرسمي للفلاحين والإهمال الرسمي لمصادر الحياة والتحريض الرسمي للمواطنين على الاقتتال الأهلي والغرق في حماة الصراعات العشائرية الدموية). ثم إنهم لا يملكون ما يقدمونه لهم كحل لمشكلة تواجدهم وتكاثرهم حول بيروت. إنهم لا يريدونهم هنا وحسب. فإذا كان لا بد من وجودهم فلا أقل من أن يحافظوا على النظافة جذباً للسياح وحرصاً على الصحة العامة (صحة الذين فوق).
ثالثاً – إن هؤلاء المكتشفين العارفين بحقيقة دور الدولة وفي خدمة من هي، يطالبون الخادم ولا يطالبون المخدوم. يلقون المسؤولية على عاتق الدولة ويتغافلون عن الذين يمنعون الدولة من القيام بأعباءهذه المسؤوليات، لو إنها أرادت فعلاً أن تقوم بها. إنهم، بكلمة، يتحدثون عن دولة أخرى في بلد آخر. إذ لا يعقل أن تطالب دولة بطرس الخوري وشركاه (ليمتد) بالتصدي لبطرس الخوري وشركاه فتمنع استغلالهم لها وللبنانيين، وتحد من جشعهم، وتقضي على احتكاراتهم!
رابعاً – إن هؤلاء المكتشفين ، وبعضهم بالتأكيد من حسني النية، يحاكم الأمور بمنطق عتيق فلا يعقل منها شيئاً. إنه لا يفهم لماذا “يتمرد” الفقراء، وهم كل عمرهم كانوا فقراء! ولا يفهم لماذا لا يرضى الغنسان بنصيبه من دنياه، بقسمته، بقدره، ويكاد ينعي الإيمان، ويستهسل من ثم إلقاء “التهمة” على موجة الالحاد، وعلى “الأفكار المستوردة” و”المبادئ الهدامة”. وهو لا يفهم لماذا “لا يتنازل الغني” عن بعض أرباحه، ولماذا لا تنبت العدالة الاجتماعية، هكذا كما الفطر مثلاً، فتحقق “الكلمة” ويكون المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة؟
إن رشيد كرامي كان يتحدث بلسان كثير من هؤلاء عندما افتقد لبنان الذي يعرفه.
لقد وجد نفسه أمام لبنان جديد، ولأنه يعجز عن ابتداع منطق جديد للتعامل مع الإنسان الجديد في لبنان فهو يرغب ويريد ويفضل إعادة القديم إلى قدمه، ليبقى هو نفسه. ويا ما أحلى مجيد أرسلان عنده أمام عزت حرب أو عصام نعمان، حتى لا نقول جورج حاوي ومحسن إبراهيم.
على أن الفضل الذي نشهد به لهؤلاء جميعاً إنهم “اعترفوا” بولادة لبنان آخر غير الذي عرفوه، وإنهم يحاولون – بالسذاجة أو حسن النية أو الخبث أو التآمر – إجراء مصالحة عشائرية بين اللبنانيين على نمط تلك التي تمت في القصر ليلة الأول من تموز الخالدة.
وهذا جهد مشكورلهم، وإن كانوا قد غفلوا عن تفصيل بسيط وهو إن لبنان الجديد لم يكن في القصر لأنه ليس فقط غير مدعو، بل لأن الآخرين تصالحوا أمس لمنعه من الوصول إلى القصور والسرايات، فارضين عليه أن يبقى حيث هو: في المخيمات اللبنانية، في زنار البؤس الملتف من حول بيروت.
… حتى إشعارآخر!

Exit mobile version