طلال سلمان

على الطريق اقتحموا لبنان

لا مفر أمام لبنان من أن يصبح وطناً. والوطن عربي بالضرورة وبالمصلحة وبوحدة المصير، إضافة إلى وحدة الانتماء.
وقرار الذهاب بقضية لبنان الوطنية، ممثلة في جنوبه، إلى مجلس الدفاع العربي في القاهرة كان واحداً من تلك القرارات التي تتخذ فقط في لحظة استشعار بالخطر على الوجود والمصير معاً. وهذه طريق الوطن: فالمواجهة ، ولو اضطرارية وإجبارية وبالإكراه، مع العدو الإسرائيلي، تجعل لبنان كله جنوبياً (والجنوبية هنا مرادف للعروبة) وتحمله إلى المؤسسة اليتيمة المجسدة للتضامن العربي، جامعة الدول العربية، ليطلب ممن يجوز بل وممن يجب أن يطلب منهم أن يؤكدوا التزامهم بمنطق الضرورة والمصلحة ووحدة المصير ووحدة الانتماء. ويؤكدونها له، من جانبهم، ويؤكدونها أيضاً فيه.
إن النظام اللبناني الفريد لم يتبدل، ولن يتبدل في مدى قريب. لكن لبنان، بعد مجلس الدفاع العربي وقراراته، أكثر عروبة بالتأكيد من لبنان الذاهب إليه بعجزه وبشكواه وبيأسه من “الأصدقاء الكبار” والضمانات الدولية البائدة.
فمنذ الاستقلال وهذا النظام يهرب لبنان ويهرب به من قدر أن يكون وطناً، أي أن يكون عربياً. وابتدعت صيغ، ونمقت عبارات كثيرة، واخترعت أوهام ووساوس، ونميت حساسيات حصرت “الحد الأقصى” لعروبة لبنان في “وجهه”، وقسمت بقية أعضائه بالتساوي بين القوى العالمية: الأفضل للأقوى، فإذا تبدلت مراكز القوة أعيد تقسيم الولاءات اللبنانية بما يحقق التوازن الدقيق!
غير إن قضية فلسطين، بالتحديد التحدي الإسرائيلي والأطماع الصهيونية في لبنان، كما في غيره من أقطار وأراض عربية، وضعت لبنان وجهاً لوجه أمام قدره وأمام طبيعته الأصلية التي لما يستطع نظامه الفريد أن يلغيها.
ومع كل اقتحام إسرائيلي جديد كانت تتهاوى وتتساقط بعض الأساطير والأكاذيب التي تصور لبنان مخلوقاً غريباً، فريداً من نوعه، وحيداً في بابه وفي “وضعه الخاص”!
وكانت العروبة في لبنان هي التي تتصدى للعجز الرسمي فتكشفه، وللخزعبلات المنسوجة حول “الضمانات الدولية” والتعهدات الأميركية فتفضح خواءها من جهة، وتفضح الهوية غير الوطنية لأولئك الذين يطلبون من الناس الركون إليها والاعتماد عليها، من جهة أخرى.
واليوم، لن يبتسم المواطن ساخراً من أي مسؤول يطمئنه إلى أن واشنطن قد تعهدت، أو إنها التزمت بحماية حدود لبنان إلى آخر هذه الترهات، وإنما هو سيتهم هذا المسؤول في وطنيته وليس فقط في سلامة عقله.
ولقد ظلت العروبة (مجسدة محلياً في الحركة الوطنية اللبنانية) في موقع دفاعي حتى هزيمة 1967، لأنها لم تكن تتصور – إطلاقاً – أن يصل الأمر بالنظام اللبناني إلى النجاة بنفسه من معركة هو طرف فيها شاء أم أبى.
بعد الهزيمة، وكرد فعل طبيعي لها ولواقع التخاذل المستفز الذي مارسه لبنان الرسمي، طرحت عروبة لبنان كما لما تطرح في أي يوم من قبل، بما في ذلك يوم الاستقلال عام 1943.
كان مر من السنين ما يكفي ليكتسب النظام ملامحه الكاملة، وكان موقفه من حرب 5 حزيران كاشفاً لطبيعته ولتوجهاته. وما زالت محفورة في الوجدان الوطني صورة ذلك الوفد البائس الذي قصد رئاسة الحكومة في أعقاب الهزيمة مباشرة، ليطلب فتح الحدود مع إسرائيل لأغراض سياحية وحتى لا تفلس فنادق لبنان وملاهيه ذائعة الصيت!
وكان طبيعياً أن تستمد الحركة الوطنية في لبنان زخماً عظيماً من النتائج الطيبة لحرب رمضان المجيدة، وأن تهجر نهائياً موقع الدفاع لتشن سلسلة من الهجمات على هذا النظام الذي طالب بنصيبه من الهزيمة، على شكل جنوح للاستسلام الكامل، ثم برؤ بنفسه من النصر، ولو المحدود، الذي تحقق عام 1973 خوفاً من.. التحول إلى وطن!
إنه لا يريد المواجهة مع إسرائيل ليس لأن إسرائيل أقوى منه وبوسعها أن “تؤدبه” كلما أرادت أن تدرب طياريها أو قواتها الخاصة.
إنه لا يريدها لأنه لا يريد للبنان أن يواجه قدره وطبيعته الأصلية فيكتشف بالتالي حقيقة نظامه الفريد، وحقيقة إرهاط المنتفعين بدوامه من كيانيين وإقليميين وانعزاليين وتجار موانئ وأصحاب دكاكين طائفية.
فهؤلاء، أهل النظام، مع لبنان المتجر والكباريه والفندق والشقة المفروشة، مع لبنان السمسار والخادم والسائق والوسيط بالقومسيون، مع لبنان المعبر والواجهة والمعرض المؤقت، مع لبنان المنظر السياحي والآثار و”مرمى الثلج وفقش الموج”، وما شابه ذلك من مشهيات و”مازات” ضرورية لإتمام الصفقة، أي صفقة…
وهؤلاء، لهذه الأسباب مجتمعة، ضد لبنان الوطن، لبنان الإنسان الطبيعي، صاحب العواطف الطبيعية، تجاه الأخ كما تجاه العدو القومي، تجاه الأرض كما تجاه مستقبل أبنائه وذكريات الحدود.
ومن أسف أن “بعض العرب” كانوا مع لبنان النظام ضد لبنان الإنسان والمواطن والوطن،
وأخطر النتائج لمجلس الدفاع العربي، وبغض النظر عن كمية الأموال وأنواع الأسلحة، إن لبنان ذهب ليلوذ بعروبته، وإن “بعض العرب” لم يستطيعوا إغراءه بالاستمرار على ما هو عليه “لأن قوة لبنان في ضعفه”!!
لقد ذهب ليرذل أمامهم جميعاً فلسفة نظامه الفريد،
وبقي أن يتقدم العرب الأصحاء، خطوة أخرى، ليلتقوا مع الحركة الوطنية داخل لبنان في المعركة الهائلة من أجل تعريبه، مرة وإلى الأبد.
ولبنان الوطن ينتظرأن يتقدم الاثنان معاً نحوه ومعه وبه،
فنصر عربي عظيم أن يصير لبنان وطناً. إن ذلك يعني انتهاء عهد الكيانات في هذه الأمة المجيدة، وإشراق شمس الوحدة التي ما غيبها شيء قدر ما غيبتها الكيانات والمنتفعون بالكيانات… اللبنانية!

Exit mobile version