طلال سلمان

على الطريق اختطاف أمة!

لم تخطف إسرائيل طائرة ليبية عليها ركاب سوريون ولبنانيون لاعتقادها أنهم فلسطينيون،
لقد حاولت إسرائيل، مرة أخرى، أن تقول إنها قادرة على احتجاز الأمة العربية كلها وأسر إرادتها وشل حركتها والتحكم بحاضرها ومستقبلها وكأنها القدر الذي لا يرد.
والعلاقة بيننا وبين إسرائيل تتجاوز منطوق القانون والأعراف الدولية، إذ لا هي تعترف بالعرب دولاً، فضلاً عن إنها لا تقر بوجودهم كأمة واحدة ولا حتى كأمم، بل هم مجموعات من القبائل والعشائر والطوائف والمذاهب بالكاد يصلحون لأن يكونوا رعية وأتباعاً وعمالاً يدويين.. ولاهم سيقرون بوجودها دولة حتى لو “حلت” لحسني مبارك “مشكلة” طابا و”حلت” للملك حسين وياسر عرفات “مشكلة” الضفة الغربية أو بعضها ولمن تكون السيادة على الأرض ولمن تكون على البشر ولمن تكون على الكواكب السيارة؟!
إن إسرائيل تفهم العلاقة على حقيقتها، وتتصرف على هذا الأساس: علاقة عداء بين أمة على أرضها وبين جيش احتلال وافد من شتى أرجاء الدنيا ليستعمر الأرض ويستوطنها ويقهر إرادة أهلها بقوة السلاح. ولا مجال لحل وسط أو تسوية، فأما أن يكون أو يكونوا ولا مساحة تكفي للطرفين إلا كمنتصر قاهر ومهزوم مغلوب على أمه إلى حد الاستسلام من دون قيد أو شرط.
ولأنها في موقع القوة فهي تمارس فهمها براحة، دون أي التباس أو محاولة للتبرير والتمويه: تضرب حيث شاءت، على اتساع الأرض العربية، من تونس إلى العراق، مروراً بلبنان وسوريا متى اقتضى الأمر، تسقط طائرة ركاب ليبية فوق أرض مصر، أو تختطف طائرة أخرى ثم تطلقها، تدمر مدناً وقرى، أو مصانع ومزارع، أو مفاعلاً ذرياً أو معسكراً، لا فرق، تقتل شيوخاً وعجائز رجالاً ونساء وأطفالاً. تقتلع الشجر وتحور الأنهار لتسحب ماءها إلى حيث تريد، تمحو التاريخ وتزوره وتبدل في الجغرافيا ووقائع الحياة بما يناسب إدامة احتلالها وإحاطته بهالة أسطورية من القداسة الكاذبة…
ولأننا في موقع الضعف فنحن نفتش فوراً عن ذرائع إضافية تبرر الضربة الإسرائيلية الجديدة لأننا لا نستطيع أن نردها!
وعلى امتداد الأيام الثلاثة الماضية كان منطق أجهزة أعلامنا، وبالتالي منطق ناسنا، إسرائيلياً إلى حد ما: “لم يكونوا يقصدون إلا القيادات الفلسطينية فلما لم يجدوها على الطائرة أطلقوا سراحها والرهائن الذين عليها”؟!
.. كأنما حق شرعي لإسرائيل أن تختطف الفلسطينيين وأن تقتلهم حتى تبيدهم، أما أن يظلوا هم مشردين بلا وطن، تائهين على وجوههم في أربع رياح الأرض بسبب احتلالها لبلادهم وطردهم بالقوة منها، فهذا موضوع تفصيلي ثم إنه قد سقط بالتقادم ومرور الزمن!
لكأنما القوة تعطي حجة قاطعة وحقاً مطلقاً لأوروبي تهود في زمن ما، ولظروف ما، في أن يطالب بأرض سكنها قبل آلاف السنين، يهود آخرون لا يمتون إليه بأية صلة قربى، وليسوا حتى من عرقه بل هم كانوا وما يزالون بعض أبناء هذه الأمة.
… بينما الضعف يمنع على صاحب الحق الأصلي الثابت، صاحب الأرض والبيت والبيارة، الزيتون والبرتقال والكرمة والذكريات ومقبرة الأجداد، أن يطالب باستعادة أرضه، أو يحاول التذكير بقضيته وإبقاءها حية حتى لا يموت مع “فلسطين” كل الفلسطينيين كي يحيا في “إسرائيل” كل الإسرائيليين الغربيين قلباً وقالباً فكراً ومنهجاً وسلاحاً ودوراً ومهمة.
لأنها قوية ومستندة إلى حقيقة كونها “الغرب مصغراً”، هي منه وهو فيها، هي الاستعمار القديم والحديث، هي الإمبريالية الأميركية والغربية، هي الاحتلال والاستيطان والقهر، كل ما تغير إنه مورس في المرة الأولى باسم المسيحية واليوم يمارس باسم اليهودية، وكلاهما من الغرب جاء ولخدمة الغرب ومصالحه اصطنعت له الدول وجهزت الجيوش والأساطيل ، في الجو والبحر، حتى لا يبقى شيء من الإرادة حراً.
ولأننا ضعفاء فنحن ندخل في نقاش فهقي حول الإرهاب، وشرائح الفروق النظرية بين إرهاب الأفراد وإرهاب الدول، ثم نستغرب ونكاد لا نصدق أن تستخدم الولايات المتحدة الأميركية حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع إدانة إسرائيل، وأن تجاملنا دول الغرب الأخرى فتبيعنا كلام المواساة والإشفاق الرخيص بينما هي تحتفل بالنصر الإسرائيلي (الغربي) الجديد على أمة العرب والشرق المتخلف والمتعصب كله!
ضعفنا هو المانع في أن نعرف إسرائيل كما هي تماماً، وفي أن نتعامل معها كما يجب أن يكون التعامل مع العدو القومي والحضاري والتاريخي.. عدو الوجود.
وضعفنا ليس في العدد ولا في العديد، بل هو في إرادة القتال وفي الاستعداد للتضحية من أجل تحرير الإرادة أولاً ثم الأرض.
فالدول العربية الغنية اشترت من الأسلحة والذخائر والطائرات المزركشة، والصواريخ اللامعة بما استنفد من دخلها واحتياطيها النقدي ما كان يكفي لاستنبات الربع الخالي قمحاً وزيتوناً وياسمين.
وفقراء العرب، دولاً وأفراداً، قدموا من الشهداء طوابير أثر طوابير كان بإمكانهم لو أتيح لهم أن يقاتلوا ويستشهدوا في المكان الصح والزمان الصح وبالقيادة الصح، أن يحرروا فلسطين وسائر الأرض العربية المغلولة الإرادة بالحاكم الغلط والنظام الغلط والاتجاه الغلط.
وهكذا استمرت الأقطار الغنية كرتونية دولها والجيوش تعرض طائراتها ودباباتها وصواريخها في عيد الجلوس للتدليل على قوة الحاكم واستعداده للبطش وتدمير كل من تسول له الطمع بكرسي العرش أو القيادة.
… واستمر فقراء العرب ، دولهم والأفراد ، يعانون قهر العجز عن مواجهة العدو وقهر الذل في العلاقة مع الشقيق الغني، فيأتي رد فعلهم على شكل عمليات استشهادية هي إلى اليأس أقرب منها إلى خطة التحرير، أو على شكل حشد مبالغ فيه يعطل الحياة أو يكاد في القطر المعني للتعويض عن المتقاعسين والخائفين والهاربين من الميدان، وأحياناً خوفاً من تآمر هؤلاء مجتمعين على من يشتبهون بأن إرادته ما تزال حرة ولو بمقدار.
تسعة أنفار عزل من السلاح كانوا على الطائرة الليبية المختطفة،
وكانوا على أرض المطار في الأرض المحتلة بضع مئات بالسلاح الكامل وبالرعب الكامل،
فهم الذين يخافون المواجهة، والمصدر الأول والأخير لطمأنينتهم ولاستمرار غطرستهم وحركتهم الحرة يضربون حيث يشاءون، هو ثقتهم بأن العرب لن يواجهوهم، مباشرة وفي أي مكان أو زمان، حتى إشعار آخر.
ومن لا يخاف من مواجهة لن “يتنازل” ولن يقبل “بتسوية”، ومنطقي أن “يتعنت” وأن “يفرض شروطه فرضاً”، وأن ينتظر وصول المستسلمين واحداً أثر واحد، كما وصلهم السادات…
إن إسرائيل تضربنا كل مرة، بقوة وبقسوة متناهيتين، باحتمال إننا سنكون ذات يوم أمة موحدة،
إنها تضرب في كل عربي، وفي كل أرض عربية ، العرب جميعاً، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب.
فهي تدرك بوعي إنها تواجهنا جميعاً وحتى وإن واجهناها فرادى أو في حالات محدودة.
وهكذا فقد خطفت كرامة العرب جميعاً وإرادة العرب جميعاً في تلك الطائرة الخاصة الصغيرة.
وليست سوريا الصامدة هي وحدها المستهدفة، ولا هي ليبيا الصامدة، ولا هم سائر العرب الصامدين في لبنان وفلسطين وأقطار أخرى.
إننا جميعاً مستهدفون اليوم وغداً، كما كنا مستهدفين بالأمس، بمن فينا ذلك القصير النظر الذي افترض، في لبنان مثلاً، إنه مستفيد من خطف الطائرة، لأنه يعتبر إن الدور السوري في لبنان قد أخذ بدوه رهينة.
فالخاطف والقاهر هو هو المحتل، عدو حياتنا ووجودنا وأبنائنا وأطفالنا الآتين.
والمخطوفون نحن، كل الذين بين المحيط والخليج،
ونحن جميعاً معنيون بالرد، وصولاً إلى المواجهة الكاملة، وليس حافظ الأسد ومعمر القذافي وحدهما.

Exit mobile version