طلال سلمان

على الطريق إنقاص “الطبيعي” على “مميز”!

لن يرتقي أي نص يكتب لتقنين العلاقات اللبنانية – السورية إلى مستوى هذه العلاقة،
ولن تستطيع أية معاهدة، مهما كان شمولها ومهما كانت قوة التصديق عليها أن “تغطي” هذه العلاقات كما هي بين البشر المعنيين وعلى الأرض،
كيف يمكن تقنين الجغرافيا وضبط تأثيراتها، خصوصاً متى كانت الحدود “وهمية” ومرسومة بالقرار السياسي وليس بالموانع الطبيعية مثلاً،
وأية معاهدة تستطيع أن تعبر عن التاريخ بكل مفاعيله في المصالح كما في الوجدان، خصوصاً وإن البشر – بإنجازاتهم وخيباتهم – هم بعض نتاج التاريخ والجغرافيا وليسوا صناعهما بالمطلق.
العلاقات المميزة؟!
إنها إنقاص لما هو طبيعي وليست إضافات عليه.
قبل “العلاقات المميزة” كانت الجغرافيا قد اعتبرت “لبنان” جبلاً في سوريا، وميزت طرابلس بتحديدها في الشام ومنها، وقررت أن بيروت وصيدا وصولاً إلى حيفا ويافا وعكا هي “الساحل السوري”.
وقبل “العلاقات المميزة”، بكل جلال اتفاق الطائف الذي نص عليها، كان التاريخ قد سرى متجاهلاً “المصنع” و”جديدة يابوس” ومتجاهلاً البدع وأعمال التزوير التي حاولت استيلاد القومية من الكيان السياسي الذي ارتجل تلبية لمصالح غير “اللبنانيين” وغير “السوريين” الذين لم يكن لهم آنذاك مثل هذه التسميات أو الألقاب “الجغرافية”.
لم تتوقف الجغرافيا عند ساحة النجمة مستأذنة النواب الكرام سواء أكانوا من الممدد لهم أم من المعينين، أن يسمحوا لها بالتمدد والانتشار في الحدود والمساحات التي يختارون بمنطق مصالحهم الانتخابية أو شبكة علاقاتهم الاقتصادية،
ولن يتأثر التاريخ بالقرار الخطير الذي سيصدر عن مجلس الوزراء اليوم، فيلوي عنقه ويخضع للمسار الذي ترسمه له حكومة الثلاثين في ضوء طبيعة العلاقات السائدة بين أعضائها، أو بينهم بالجملة وبالمفرق، وبين الرؤساء ، أو بين الرؤساء الثلاثة الذين عجزوا عن التكامل والتوحد وظل ممنوعاً عليهم الانفصال.
ومن باب أولى أن يعجز “الروحانيون” عن تغييير الجغرافيا أو التاريخ بالمواعظ، أو إلغاء تأثيراتهم الملموسة بإحالة الناس إلى “دار البقاء” أو “العالم الآخر”، حيث لا قيمة لأحد ولا لشيء إلا للباري عز وجل، فاطر السمات والأرض وخالق الخلق جميعاً.
ويوم ارتكب بعض المسؤولين في لبنان خطأ مخالفة منطق الجغرافيا والتاريخ وحقائق الحياة لم يتبدل شيء من هذه الثوابت ولكنهم سقطوا هم واتفاقهم المشؤوم الذي “نحتفل” الآن بالذكرى الثامنة لاندثاره،
وإنها لمفارقة لا يمكن قبولها تلك التي تتمثل في “شكل” الإقبال على التورط في اتفاق الاذعان مع العدو الإسرائيلي، اتفاق 17 أيار 1983، وبين “شكل” التحفظ والتحسب والتخوف من مغبة الإقدام على عقد اتفاق بين الحكومتين اللبنانية والسورية، وكأن في الأمر “خطيئة لا تغتفر” يداري مرتكبها العيون حتى لا ينكشف أمره ويسلم إلى أقرب مخفر شرطة!
كان أمين الجميل يباهي الناس بأنه إنما ينجز “سبقاً” تاريخياً، بوصفه بطل مغامرة الإنقاذ الوطني، ورئيس الإجماع الوطني، وسط شبه إجماع محلي، وتأييد عربي شبه شامل، ودعم دولي غير محدود تقوده القوة التي لا تقهر: الولايات المتحدة الأميركية!!
وكان يعاير “الأقلية” المعترضة بأنها تقاتل وحيدة في معركة خاسرة سلفاً، وفي مواجهة العالم إلا أقله!
… ولعل آخر من يحق له الاعتراض على مشروع “العلاقات المميزة” هم السادة أعضاء المجلس النيابي – الباقون حتى اليوم بقوة التمديد والعمر الطويل – والذين أقروا اتفاق الاذعان مع الإسرائيلي بما يشبه الإجماع.
ليس المشروع المطروح وحدة أو شبه وحدة أو خطوة على طريق الوحدة بين لبنان وسوريا. وليته كان كذلك إذن لاستحق النضال من أجله، أو حتى ضده.
إنه أقل مما كان قائماً أيام الانتداب الفرنسي، وأقل مما يجوز أن يكون قائماً في أي عصر وأي عهد.
وبين المآخذ على هذا المشروع إنه أكثر “حكومية” وأقل وحدوية مما يجب.
لن تزداد بعده العلاقات بين الأخوين التوأمين متانة، ولن تتوثق بعده الأواصر أكثر مما هي فعلاً،
إنه، بالمعنى السياسي، طي عملي لصفحة سوداء في تاريخ العلاقات بين الحكومات في البلدين، وفتح صفحة جديدة سيكون ما بعدها أكثر تعبيراً عن “العلاقات الطبيعية” مما يتضمنه النص الخاضع الآن لبازار المزايدة والمناقصة الذي يشارك فيه الطائفيون والمنتفعون والمتضررون على قدم وساق،
أما الوطنيون، بل المواطنون، فهم يريدون أكثر، ويمارسون أكثر، لأنهم أكثر وعياً لمنطق التاريخ والجغرافيا من الحكام والحكومات ورجال الدين المحترمين.
و”المميز” هو القائم وليس ما سوف يقر، حكومياً، وباسم العودة إلى الطبيعي.

Exit mobile version