طلال سلمان

على الطريق إمبراطورية أميركية بقرار إسرائيلي؟!

ليس جديداً القول إن “الإمبراطورية الأميركية” المنفردة الآن بالهيمنة على الكون، ستكون أقصر الإمبراطوريات عمراً في التاريخ.
كذلك ليس جديداً القول إن معظم “انتصاراتها” قد تحققت لها على يد خصومها ومناهضيها ومدعي العداء لها، أكثر مما أحرزتها بقواها الذاتية، أو بخبراتها “العريقة” في أحوال الأمم والشعوب، أو “بعقيدتها” الأصلب من العقائد والأيديولوجيات التي التهمها “أبناؤها” والحاكمون باسمها، على طريقة قدامى العرب في جاهليتهم مع “آلهتهم” المصطنعة من التمر.
ولم يحدث، عبر التاريخ، إن ساد الكون مجتمع أمي في السياسة إلى هذا الحد، ومنعزل، وغارق في أزماته الاقتصادية المتفاقمة والتي لا يبدو أنها ستجد حلولاً جدية لها في المدى المنظور.
وبعيداً عن الجانب النظري، فإن الوقائع تثبت أكثر فأكثر أن الإدارة الأميركية الجديدة أقل خبرة وأقل حكمة وأتعس في المبادرة من إدارة بوش – بيكر بما لا يقاس.
إنها إدارة ركيكة، مرتجلة، مرتكبة، ومرتهنة لإرادة قوى طارئة ودخيلة على المجتمع الأميركي، لا هي تمثله فعلاً ولا تعبر عن مصالحه الحقيقية، وكل ما يهمها أن تهيمن على القرار فيه لتوظيفه بما يخدم مصالحها “الكونية”، هي الأخرى،
ونعني الصهيونية، هكذا بكل بساطة وموضوعية وبعيداً عن العدائية العربية الطبيعية لهذه الحركة الطامحة منذ أكثر من قرن للهيمنة على الكون، بالواسطة حتى إذا تمكنت تولت الأمر مباشرة بيديها.
وليست المفاوضات المباشرة الجارية في واشنطن بين العرب وعدوهم الإسرائيلي هي المساحة الوحيدة لاستكشاف مدى هيمنة النفوذ الصهيوني على إدارة كلينتون، وإن كانت تقدم دليلاً لا يدحض على أن إسحق رابين هو الأقوى في هذه الإدارة وعليها.
وإذا كانت الوفود العربية تفتقد الآن المبرر لاستئناف المفاوضات إذا ظل الموقف الأميركي ضعيف التأثير على القرار الإسرائيلي، فلأنها لمست أن إدارة كلينتون تنسى تعهداتها وتتخلى عن التزامها بدور “الشريك الكامل” متى جبهها الطرف الإسرائيلي بالرفض، سواء أتذرع بوضعه الداخلي، أم لجأ إلى ابتزازها بالضغط عليها من داخلها حيث له قوة تأثير غير محدودة.
ويروي بعض المتابعين لتفاصيل العلاقات الأميركية – الإسرائيلية في طورها “الجديد”، إن إسحق رابين طلب إلى الرئيس الأميركي كلينتون، خلال زيارته له قبل شهرين (وقد كانت أول لقاء رسمي لكلينتون مع ضيف أجنبي) أن يتعهد له بأمر محدد، وإنه قد نال منه التعهد المطلوب.
كان مطلب رابين أن يتعهد له كلينتون بألا يلتقي الرئيس السوري حافظ الأسد، لا في دمشق ولا في واشنطن ولا في أية عاصمة ثالثة، إلا بالتنسيق معه موافقته على جدول أعمال اللقاء!
أي أن إسرائيل تحاول أن تبتز الرئيس الأميركي، علناً، فتضع قيداً على حركته وضابطاً لعلاقاته الخارجية فلا يقر منها إلا ما يوافق مصالحها،
وواضح تماماً، في هذا السياق، إن التعهد الذي عاد به بيريز مؤخراً من الصين (وربما من الهند أيضاً)، والقاضي بأن تمتنع أكبر دولة في الكرة الأرضية، عن بيع أي سلاح للعرب، وبالذات للسوريين، ما كان يمكن أن يناله وزير خارجية رابين لولا الضغط الأميركي المباشر على بكين، واستجابة لابتزاز إسرائيلي مكشوف برهن علاقات الولايات المتحدة الخارجية بالمصالح بل بالمطامع الإسرائيلية في الأرض العربية.
مثل ثالث: حكاية “الأفغان العرب”،
واضح لكل ذي عينين أن هؤلاء “المتطوعين” الذين جمعوا تحت راية “الإسلام”، وبتمويل من أطراف عربية تأتمر مباشرة بأوامرالمخابرات المركزية الأميركية، وفي طليعتها السعودية، إنما هم جزء من جهاز ملحق بالسي . آي . أي أو أنهم صاروا كذلك.
لقد باتوا أشبه بتلك “الفرقة الأجنبية – اللليجيون اترانجير” في الجيش الفرنسي، والتي كانت تتشكل من مرتزقة ومن رعايا المستعمرات الفرنسية في ما وراء البحار، والتي كانت تشحن لتقاتل ضد شعوبها ذاتها أو شعوب تعيش أوضاعاً مشابهة تحت الاستعمار وتكافح من أجل الاستقلال والتحرر.
والآن، ها هم “الأفغان العرب” ، الذين ما زالوا بمجملهم خاضعين لقيادة المخابرات المركزية الأميركية، يصبحون بعباً يستخدم لإخافة ثم لابتزاز مجموعة من الأنظمة العربية “الصديقة” جداً للولايات المتحدة الأميركية.
اللافت هو التوقيت: فبينما “حرب” المفاوضات العربية – الإسرائيلية مفتوحة على مصراعيها، إذ بهؤلاء “المرتزقة” الذين تولتهم إسرائيل بالرعاية، من داخل الجهاز الأميركي، يتحولون بسلاحهم ضد.. من أوفدهم من الحكام العرب!
إنه ابتزاز آخر لتلك الأنظمة كي تستسلم كلياً أمام إسرائيل، فتخرج من دائرة الصراع القومي (بطبيعته) معها، موجهة طعنة قاسية إلى الأطراف التي تحاول عبر المفاوضات (وتحت الرعاية الأميركية) استخلاص الحد الأدنى من الحق العربي في الأرض وتقرير المصير فوقها.
ولعل أوضح مثال للابتزاز الإسرائيلي، عبر الصمت الأميركي، هو ما يجري حالياً فيمصر كاشفاً ما يدبر لها.
إن صحف الغرب (الأميركية وقبلها البريطانية) تفرد الآن صفحات طويلة للحديث عن بؤس النظام المصري وضعفه وعجزه عن مواجهة الاضطرابات ذات الطابع الطائفي والتي تتفاقم يومياً مدمرة اقتصاديات مصر ووحدتها الوطنية وأمنها القومي.
لكن المستفيد الأول من مثل هذا الوضع هو الإسرائيلي، الذي يبتز النظام المصري فيسخره أداة ضغط على المفاوض العربي “يغريه” بالتنازل والتفريط واسترضاء إسرائيل بأي ثمن، لعلها تكف أذاها عنه.
والإدارة الأميركية لا تجد ما تفعله غير تهديد حسني مبارك بقطع المساعدات عنه، وتنذره – بعدما الحف في الرجاء – بأنها لن تستمر في تقديم المساعدات اللازمة لبقائه في موقعه إلا حتى العام 1995، وعليه أن يتدبر أمره بعد ذلك!
ومن أين يتدبر الأمر هذا الحكم البائس الذي أفقدته الاضطرابات، في ما يعلن، بضعة مليارات من الدولارات كانت تأتيه من دخل السياحة، بينما هو كان عاجزاً عن توفير لقمة العيش لملايين المصريين الذين يتزايدون كل دقيقة، حتى مع ذلك الدخل من السياحة الذي كان مرشحاً لأن يتضاعف لولا “الشغب” المنظم باسم “الإسلاميين”، وبعضهم عائد من الرعاية الإسرائيلية في أفغانستان، تحت القيادة الأميركية وبعضهم الآخر تقيم قياداته حتى هذه الساعة فوق الأرض الأميركية وتجهر بأنها هي التي تقود “الجهاد” ضد حسني مبارك ونظامه المتهالك؟!!
كل ذلك وسط حملة إسرائيلية منظمة وعظيمة الأصداء داخل المراكز التي تطبخ القرار الأميركي وتسوقه وتضمن له أن يعتمد سياسة رسمية، تصور أن لا عدو في عالم اليوم والمستقبل للولايات المتحدة والغرب كله والحضارة الغربية وللنظام العالمي الجديد إلا… الإسلام!
أي أن إسرائيل تصطنع “العدو” ثم تستخدمه “فزاعة” وتحاول قود الولايات المتحدة لأن تخوض الحرب ضد هذا “العدو الوهمي” مع التنويه بأن واشنطن كانت وإلى ما قبل سنوات قليلة تستخدم هذا النوع من الإسلام السياسي كأشرس حلفائها في قتال خصومها “الشيوعيين” و”القوميين” وكلهم كفرة مستقرهم جهنم وبئس المصير.
… وتشاء المصادفات أن يكون عدو إسرائيل الفعلي هو أهل الإسلام وناشرو رسالته وحملة دعوته، أي العرب الذين لا يستطيع سائر المسلمين أن ينازعوهم شرف القيادة في عالم المؤمنين بالدين الحنيف!
الطريف أن إسرائيل التي تروج عن الإسلام صورة العدو المطلق للولايات المتحدة والحضارة الغربية، هي ذاتها التي تفتح لها واشنطن والحركة الصهيونية فيها أبواب الجمهوريات الإسلامية التي كانت منضوية داخل الاتحاد السوفياتي السابق، وهي المكلفة أميركياً بأن تتولى الوصاية عليها في فترة ضياعها المرشحة لأن تطول.
والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى، سواء في الواقع العربي أو من خلال مجريات الأمور في العالم الإسلامي والعلاقات المضطربة مع الإدارة الأميركية الجديدة.
لكأننا أمام مشروع إمبراطوري أميركي بقيادة صهيونية،
لكأن الولايات المتحدة تتقدم للهيمنة على الكون، في حين يتقدم النفوذ الصهيوني للهيمنة على القرار الأميركي،
كل ذلك والعرب غائبون، أو أن بعضهم يحاول أن يستغفل البعض الآخر لكي يسترضي إسرائيل في واشنطن أو واشنطن في إسرائيل.
من هنا يصعب التخيل أن تنجح المفاوضات العربية – الإسرائيلية، وتحتاج كل جولة جديدة إلى معجزة لكي يتم تحديد موعدها ثم لتفتتح في الموعد المقرر.
أوليست هي “الحرب”؟!
وكيف تكون الحرب، إذن؟!

Exit mobile version