طلال سلمان

على الطريق إلى دمشق عبر مغدوشة

لن تتبدل صورة أمين الجميل في عيون اللبنانيين حتى لو نجح في خرق القتال وذهب إلى دمشق غداً.
فما كتب عن أمين الجميل وحكمه قد كتب، وبالدم، وما مضى من العمر أكثر مما بقي للرجل وعهده، ودمشق والرئيس حافظ الأسد أعرف به من الجميع، إذ لم يحدث أن عقد من اللقاءات المغلقة مع مسؤول عربي بقدر ما عقد من “القمم” مع هذا الرئيس الذي كان وما يزال يحتاج إلى معجزات تبقيه في منصبه بمعدل واحدة كل شهر على أبعد تقدير.
وصحيح إن وضع أمين الجميل قد صار “مرتاحاً” في الفترة الأخيرة، ولكن السبب يتصل بكفاءة مخاصميه أكثر مما يتصل بنجاحاته… حتى ليمكن القول “إن الرئيس في لبنان قد انتصر على الوطن، بشعبه وأرضه والمؤسسات”، لسبب عملي بسيط هو إن الوطن لم يعد قائماً إلا في الأحلام (والبعض يقول: الأوهام)، وإن الشعب صار أمماً شتى متناحرة متقاتلة ومتوالية الانشطارات، وإن الأرض غدت ميادين معارك وحروب ترتسم فوقها مناطق النفوذ والتقسيمات (أو الكانتونات) بخطوط تماس ما تفتأ تتوالد كالفطر يومياً، ثم تتثبت فتغدو حدودواً وتخوماً وستاراً من حديد!
لكن أمين الجميل ما يزال مضطراً إلى أن يقصد دمشق، إذا ما ذهب إليها، على جناح “التاجر”، وليس كما يذهب الناس جميعاً على “طريق الشام”،
أي أنه سيطير إليها، إذا ما قررت استقباله، من فوق رؤوس اللبنانيين جميعاً، في بيروت الشرقية كما في الغربية، وفي الجبل كما في البقاع، ومن فوق مشاكلهم وهمومهم وأحزانهم بل ربما بفضلها جميعاً، وهو أبرز صناعها والمتسببين فيها.
واللبنانيون الذين يعرفون إن الحل لمأساتهم لا بد أن يأتيهم، إذا ما أتى، عبر دمشق وعلى “طريق الشام” إياها، قد تعودوا ألا يذهب أمين الجميل إلا لكي يبيع ما يشتري به مهلة إضافية أو فترة تنفس، في انتظار ما يستجد، وأكثر ما يحدث في هذه المنطقة الولادة للمستجدات!
والآن وقد استنفد أمين الجميل اللبنانيين فإن انتظارهم الكليلة لا ترى سلعة قابلة للتسويق إلا مشروع التحالف (قيد التأسيس) بين “رئيسهم” و”الرئيس” الآخر ياسر عرفات،
ومن حق اللبنانيين والحالة هذه أن يعتبروا إن عرفات هو الذي فتح طريق الشام أمام أمين الجميل ، وبهذا المعنى تصير “مغدوشة” محطة أو همزة وصل بين بعبدا ودمشق وليست نقطة متقدمة على طريق تحرير القدس الشريف!
فياسرعرفات الذي فجرحرب المخيمات الثالثة بوهم إنه سيغير في المعادلات داخل لبنان، ثم داخل طوائفه بما في ذلك الشيعة، على حد ما يقول أحد الناطقين بلسانه، سيكتشف عما قريب إنه لم يغير إلا في حجم المأساة التي يعيشها اللبنانيون والفلسطينيون إذ جعلها أدهى وأمر وفتح باب المخاطر على مداها، بحيث صار أمين الجميل “الطبيب المداويا” للمرض الذي في العراق!
كذلك سيكتشف عرفات، قريباً، إنه جاء يصطاد الجميل فاصطاده ثم انطلق يعرض جلده وجلود الفلسطينيين للبيع، مستفيداً من لحظة الإجماع اللبناني على ضرورة خروج أو إخراج الفلسطينيين من الحرب الأهلية المحلية ليسهل من ثم الفرز بين عناصرها في محاولة لإيجاد مخرج مقبول يؤدي – في النهاية – إلى الحل العتيد ، ولو بعد حين.
وأمين الجميل يتصرف بما يوحي وكان الصفقة ستتم مع دمشق، في حين إن عقد البيع باسم آخرين، أبرزهم الإدارة الأميركية التي استمرت تنصحه بأن “ينتظر ويرى”، ولا يتسرع في معاودة الطرق على باب دمشق، حتى تكتمل دورة الفلك في المنطقة محدثة ما لا يحده التقدير من تغييرات في المواقع والمواقف والتحالفات.
ودمشق أوعى بكثير وأ‘مق خبرة وأغنى تجربة من أن يخدعها أمين الجميل مرة أخرى فتلدغ من جحر واحد عشر مرات!!
لذا فلا خوف ولا خطر من أن تخطئ الحساب، ورئيسها علامة في هذا العلم… لكن الخوف والخطر في أن تخطئ بعض القيادات الوطنية اللبنانية كما اخطأت قيادة عرفات أو لعلها تعمدت الخطأ مفترضة إنها بهذا تربك الموقف السوري وتضعفه فتكسب هامشاً إضافياً للمناورة مع الأميركي (واستطراداً الإسرائيلي) فيعرض عليها وهي في أضعف حال ما لم يعرضه عليها وهي في ذروة قوتها أيام العز الذي كان ، وفي عمان لا في بيروت.
إن طريق الشام هي طريق الشام ، ومن زرعها بالألغام والأجداث والأشواك لن يحولها – بسحر ساحر أو تاجر – إلى حديقة ورود،
وطريق الشام، في هذه اللحظة تحديداً، تمر بصيدا وصور والنبطية (والشريط الحدودي الذي لا يزال يرزح تحت الاحتلال)، تماماً كما تمر ببيروت والضاحية والجبل، والكل جريح يكاد يقضي عليه النزف المستمر والاشتراكات الناجمة عن “نهج التجويع” الذي لا يمكن أن يسأل عنه غير “الرئيس” بوصفه الحكم والحاكم ومصدر القرار.
وبالمقابل فإن الطريق إلى بعبدا تمر حتماً بدمشق وعبرها، مثلها في هذا مثل طريق الحل لحروب المخيمات، وللموضوع الفلسطيني بالجملة، ومن بعده للمسألة اللبنانية التي صارت مجمع أزمات المنطقة التي تعيش ربع الساعة الأخير قبل إعصار التغيير.
ومن المفارقات المفجعة أن يبدو ياسر عرفات وكأنه ينطلق من لبنان وفي اتجاه دمشق لإخضاعها بقوة السلاح، معطياً ظهره للعدو الإسرائيلي مقتتلاً ومقاتلاً ضد “بحره” اللبنانيِ. في حين يظهر أمين الجميل نفسه (وهو سليل البيت الأعرق والأبرز في تفجير الحرب الأهلية) وكأنه ذاهب إلى دمشق ليطلب منها السلام والمساعدة على إيقاف القتال والاقتتال والتفرغ لتحرير المحتل من الأرض!
والسؤال الأول: ألم تأت ساعة الحقيقة عند الأخوة الفلسطينيين بحيث يعيدون النظر في أمورهم جميعاً، الاستراتيجي منها والتكتيكي ، ما يتصل بالهدف والغاية أو ما يتصل بالوسيلة والأسلوب، فيجنبوا أنفسهم ويجنبونا الكارثة التي نمشي إليها جميعاً بأقدامنا؟!
والجواب عندهم وليس عند دمشق
بل لعل دمشق تنتظر مثل هذا الجوب، وتماس أقصى الضغط للحصول عليه،
فهي المستهدفة مع الجميع، وقبل الجميع.

Exit mobile version