طلال سلمان

على الطريق إلى جهنم السبب والمستفيد… لكنه دمي هذا الذي يجري!

استأذن في إعادة نشر افتتاحية “قديمة” تبدو الآن – على حرارة النص فيها – وكأنها كتبت قبل قرن كامل لهول ما حفلت به السنة المنصرمة على “عاصفة الصحراء” من أحداث جسام غيرت مسيرة الأحداث في منطقتنا وفي العالم.
كتبت هذه الافتتاحية فجر مثل هذا اليوم من العام الماضي، على هدير أسطول الطائرات الحربية الأميركية الذي باشر الحرب بالإغارة على “النقاط الاستراتيجية” في العراق، ومعها على جملة من الأحلام والأوهام والحقائق العربية فدمرها تدميراً.
اليوم، في ضوء ما “انتهت” إليه المفاوضات العربية – الإسرائيلية في واشنطن، وتحديداً ما أصاب القضية الفلسطينية باسمها ومن أجلها وعبرها،
ثم في ضوء ما يدبر للجماهيرية العربية الليبية تأديباً وتدجيناً لقيادة الثورة فيها وابتزازاً لشعبها عبر تهديده بأن تعاد عليه التجربة العراقية، ومرة أخرى باستخدام الشرعية الدولية ممثلة بمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
وأخيراً وليس آخراً في ضوء ما جرى وما يجري في الجزائر وما يُدبّر لشعبها الطامح إلى الديموقراطية وتأكيد انتمائه لأرضه وهويته القومية ودينه، وهو ما تجلى عبر الموقف الشجاع لجبهة التحرير الوطني التي لعلها تولد الآن كحزب طليعي وديموقراطي في الجزائر وهو ما لم تكنه عبر تاريخها الطويل، مع التنويه بمناضل صلب بغير ادعاء هو أمينها العام عبد الحميد المهري، وكذلك عبر مواقف الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجبهة القوى الاشتراكية ومعظم الأحزاب والتيارات الجدية وذات التأثير على صورة جزائر الغد.
هذا من غير أن ننسى الحرب القاسية التي تشن على سوريا لعزلها وإضعاف موقفها في المفاوضات التي ذهبت إليها مرغمة، وكنتيجة للوضع العربي المفجع بعد الهزيمة العربية التي تسبب فيها النظام العراقي فوفر للقيادة الأميركية فرصة نموذجية للهيمنة على العالم وتأديب القوى “المتمردة” عبر العرب… وعلى حسابهم،
ومن غير أن ننسى أيضاً وأيضاً أن لبنان الجريح قد أسقط من الذاكرة، فلم يلحظ بين الدول المتضررة من “عاصفة الصحراء”، ولا أغدقت عليه المساعدات الموعودة، وظلت الوعود بإعادة إعماره – بدءاً بالصندوق الدولي وانتهاء بمشروع الوسط التجاري – كلاماً لا يغني ولا يسمن من جوع،
في ضوء هذا كله يمكن تكرار القول “إلى جهنم المستبب والمستفيد، لكنه دمي هذا الذي يجري”، وسيجري إلى ما شاء الله ما لم يغير “قومنا” ما بأنفسهم.
مرة أخرى اعتذر من إعادة نشر افتتاحية قديمة، لكن العذر أن الجراح ما تزال نازفة وهي قد زادت حتى غطت الجسد كله.
إلى جهنم “أبطال” هذه الحرب جميعاً: جورج بوش وجون ميجور وإسحق شامير وسائر الذين تسببوا وبرروا ووفروا الذريعة أو روجوا أو سوغوا أو زينوا أو أفتوا بتدمير قطر عربي عظيم بحجة “تحرير” الكويت من الكويتيين والعروبة معاً.
فلحمي هذا الذي يْوكل. مدي هذا الذي يُهدَم. دمي هذا الذي يسيل ويهدر في أنابيب النفط الأميركية فلا ينفع صناعات اليابان الدقيقة ولا هو ينعش مشروع الوحدة الأوروبية.
“عاصفة الصحراء” تجتاحنا… لقد صادروا حتى الصحراء التي كانت تستوطن القصيدة وغنة الشجن في ربابة العاشق المتيم،
وصادروا عقولنا، عيوننا، آذاننا وقدرتنا على التحليل،
هم يضربوننا، وهم يصفون مواقع صفعاتهم على كرامتنا وعزتنا، وهم يصفون وجعنا عبر ضحكات مراسيلهم في بغداد، غير بعيد عن أهداف الضرب… بل إنهم كانوا يتكرمون علينا فيسمعوننا عبر أقمارهم الصناعية صدى انهيار الكبرياء ونجيب دجلة.
… ونحن مجرد متفرجين بعيون بلهاء وأفواه مفتوحة وأدمغة مشلولة: لا نملك ما نفعل غير المتابعة الخرساء المتقدم الأميركي وهو يبهرنا بدقته المذهلة وحضوره الشامل في كل المواقع التي أخليناها أو تركناها فارغة للتعذر.
الضحايا يتفرجون على كواكب جنازاتهم.
عليهم الحرب، في سمائهم الحرب، فوق أرضهم الحرب، من أجل ثرواتهم الحرب، هم الذريعة والسبب، ولكن مجرد متفرجين على المأساة التي لا تبكي أحداً ولا تنفع أحداً إلا المهتمين بآثار الحضارات المنقرضة.
نتفرج على الحرب التي تقرر بداية جديدة للتاريخ مكتوبة بـالدم العربي”، في حين أن العربي خارجه، نتفرج عليهم وهم يتفرجون على عاصمتنا تحترق وتتهاوى معالمها وملامحها العصرية الأنيقة.
ونسمعهم وهم يصفون لشعبهم كيف ومتى (بالدقيقة والثانية) بدأ تدمير مستقبلنا وإحراق حاضرنا بعدما زودهم بعضنا بالثقاب والنفط.
نتفرج على آمالنا ترحل بعيداً، بعيداً، إلى ما خلف البحر والصحراء والشمس،
نتفرج على “احتمال” غدنا وهو يستحيل خرافة ويشطب من جدول الأخبار.
نسمع أسماء جراحنا بالإنكليزية، ونكتشف أن أحلامنا صارت أهدافاً تحت القصف،
لكأننا شهود زور ضد أنفسنا، بل لعلنا شهود ادعاء!
على إن ما يطمئن أن سعر برميل النفط قد ارتفع إلى أربعين دولاراً… أي أغلى قليلاً من دمنا القاني!
إلى جهنم السبب والمسبب، الذريعة والمستفيد،
فلحمي هذا الذي يُؤكل نيئاً،
عراقي هذا الذي يُضرَب من البحر والبر والجو،
وليس يعنينا مصير صدام حسين ومن حرضه ودفعه وأغواه بخوض هذه المقامرة بالعراق العظيم، شعباً وجيشاً وإنجازات كنا نحتسبها في رصيد الغد الأفضل والنصر المرتجى على العدو القومي المتربص الآن لاستغلال النتائج والإفادة منها كشريك مضارب،
عراقنا هو الذي يعنينا،
ولن تعوضنا “استعادة” الكويت خسارة العراق، عراق الحضارة التي كانت والحضارة التي كنا نمني النفس ببنائها يوم نلج العصر بقدم ثابتة.
وحين كنا نجهر ونرفع الصوت برفض الحرب فلأننا كنا نعترف قدر ما نعرف إننا لسنا جاهزين لها، إضافة إلى كوننا غير مقتنعين بأسبابها ومبرراتها.
فقرار الحرب، في ما يعني العرب، هو قرار بحت فردي، أما نتائجها فعلى مجموع الأمة “المجيدة” والمكبلة بالعجز والقهر المعتق والتغييب عن القرار،
ومن واقع تجربة النظام العراقي ذاته فإن المواطن العربي يدفع من دمائه ومن رزقه ثمن الحرب الخاسرة مرتين: أولاً في الحرب ذاتها (وهو مساق إليها بغير إيمان وبغير دافع جدي وبغير رغبة) ثم على يد النظام المستمر بعد الحرب وبرغم مسؤوليته المباشرة عن نتائجها المريعة سواء في أعداد الضحايا أو في الكوارث الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية وصولاً إلى السياسية.
إن صاحب القرار بالحرب الخاطئة والخاسرة يبقى بمعزل عن نتائج “حربه” وسواء انتهت بهزيمة ساحقة أم بهزيمة محدودة.
وهو ذاته يذهب في كل عيد إلى مقبرة الملايين ليقرأ الفاتحة على أضرحة ضحايا الهزيمة في الحرب التي فرضها على شعبه… وقد يخطب واعداً بالمزيد من الحروب والانتصارات!
ونحن، العرب، لم نعتد على الحرب إلا خاطئة في مكانها أو في زمانها أو شعارها أو وجهتها.
نادرة جداً هي الحالات التي سُمح فيها للعرب، كشعب أو كأمة، أن يخوضوا “حروبهم” هم ضد أعدائهم “هم” وليس حروب حكامهم أو المتحكمين فيهمز
وعلى امتداد العشرين سنة الأخيرة كانت الحروب التي لما تتوقف حروباً أهلية عربية في طابعها العام. ولقد استنفدت هذه الحروب الخطأ في الأمكنة الخطأ، وبالشعارات الخطأ حيوية الأمة وقدرتها على الصمود والمقاومة ومواجهة عدوها القومي الذي ما زال يحتل أرضها ويتوسع فيها، وكذلك على مواجهة الغزو الخارجي حين جاء متذرعاً بخطأ عربي ومتلفعاً بإرادة دولية.
كذلك فإن الحروب الأهلية التي لم تتوقف تقريباً في مختلف أرجاء الوطن العربي قد أنهكت المواطن العربي، ودمرت قيمه وعلاقته بالحياة وجعلته مستودعاً للأمراض والأحقاد والأورام السياسية والطائفية والعنصرية الخبيثة.
لكنه العراق…
لحمي هذا الذي يُؤكل. مجدي هذا الذي يُهدَم. دمي هذا الذي يعطي دجلة لون الأرجوان ويعطر عاصمة الرشيد بشميم النجيع ورائحة الأحلام والأماني المحترقة.
إلى جهنم السبب والمسبب، الذريعة والمستفيد،
ولكن من ينقذ العراق… وسائر الأمة؟!

Exit mobile version