طلال سلمان

على الطريق إلى “المقاصد” في عيدها..

حتى وهي مثلومة القلب، مقطعة الأوصال، مسدودة الأوردة بأشلائها التي مزقتها الحرب، تبقى بيروت كبيرة، مشرقة بما تختزن من تاريخ نضالي ومن إسهام مضيء في مجالات الثقافة والعلم وإثبات جدارة الإنسان العربي بهذا العصر وتقدمه الحضاري المذهل.
أمس، في يوم المقاصد، التي تشكل معلماً أساسياً من معالم بيروت، المنتدى الفكري والشارع الوطني العربي، والمطبعة والكتاب والجامعة والمستشفى وجريدة الصباح، استعادت بيروت شيئاً من روحها وأكدت استعدادها لأن تعطي أكثر للبنان كما لسائر العرب في مختلف أقطارهم.
وكما بيروت فإن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية قد كبرت بتاريخها وبجهد الناس الذي منحوها من أعمارهم عصارتها وأعطوها من كفاءاتهم ثمراتها الطيبة، فلا هي سألتهم ولا هم تذرعوا بكونهم من “خارجها” ليحجبوا عنها ما يجعلها مفخرتهم وملاذهم وهم يذودون عن حقهم في الوجود وفي الكرامة وفي بناء الغد الأفضل.
ولقد جاءت لحظات شرفت فيها بيروت “المقاصديين” بقياتها، فأطلوا منها على موقع القيادة الوطنية للبنان كله،
وكثيراً ما تحول “نادي خريجي ال مقاصد” إلى كعبة الإرادة الشعبية حين كانت المؤسسات المنتدبة رسمياً لتكون حصن الديموقراطية تتخلف عن واجبها ملتحقة بالحاكم المنحرف أو متسترة على انحرافه.
لقد خرجت المقاصد أجيالاً من بناة التقدم في لبنان، لكن أعظم رصيد لها إنما ينبع من ذلك الدور الريادي الذي قام به “المقاصديون” كطلائع في العمل الوطني والقومي.
فالجامعات كثييرة في لبنان، والمدارس المتعددة الانتماءات والتوجهات (نتيجة لتعدد التوجيهات) أكثرمن الهم على القلب.
لكن معظم تلك المؤسسات التعليمية المرتبط بالهيئات الطائفية أو المذهبية، مباشرة أو عبر البعثات التبشيرية أو غيرها من مراكز التوجيه الأجنبي، كان يتحول إلى عبء على الجهد المبذول من تال تحويل لبنان من كيان إلى مشروع وطن ومن مزرعة لأصحاب النفوذ ذوي الجذور الطائفية إلى مشروع دولة عصرية، عربية وديموقراطية.
وبالتأكيد فإن تلك المؤسسات كانت، بمعظمها، أغنى من المقاصد، خصوصاً إنها كانت، وربما ما تزال تتلقى فيضاً من الإعانات والهبات والمساعدات النقدية أو العينية.
لكن نجاح تجربة “المقاصد” أثبت أن المال وحده قد يبني مؤسسة ضخمة وقادرة، بغير أن يصب نتاجها بالضرورة في مصلحة الوطن والمواطن.
فليس بالمال وحده بنيت “المقاصد”، مع أهمية المال في تطورها وتنامي قدراتها وتزايد فروعها في مختلف أنحاء لبنان،
والرصيد الأساسي “للمقاصد” يتجاوز بكثير طبيعة دورها إذا ما نظر إليها كمؤسسة تربوية، إذ هو يتصل – عملياً – بتراث العمل الوطني في لبنان،
ومن هنا صارت “المقاصد” أحد عناوين بيروت بما هي حاملة راية للنضال القومي ومنارة عربية، وبما هي في الوقت نفسه اختزال للوطن، بهموم أهله وطموحاتهم المشروعة إلى غد يليق بهم.
وكما أن بيروت لم تكن أبداً “بيروتية”، فإن “المقاصد” اجتهدت دائماً لأن تتخطى النطاق الطائفي والمذهبي، وهي قد نجحت بقدر ما كان القيمون عليها أكثر ارتباطاً بالوطن منهم بأية وشائج أو مصالح أو غرائز طائفية أو مذهبية.
وكما أن “البيروتي” بامتياز، هو ذلك الأعظم وطنية الأصدق عروبة فإن “المقاصدي” بامتياز هو الآتي من الطائفة إلى الوطن والخارج من الحي أو من القرية لينخرط في نضالات أمته المجيدة من أجل تغيير واقعها البائس، ولو بالثورة، مسلحاً بما زودته به من علم ومن ذخيرة وطنية ووعي قومي.
مبروك “للمقاصد” عيدها في ذكراها الخامسة عشرة بعد المئة،
ومبارك جهد كل أولئك الذين أسهموا في بنائها، على تعاقب الأجيال، وفي رعاية نموها وتحديثها وحماية دورها الوطني والقومي.
ومن مفاخر لبنان أن الحرب بكل آثامها وشرورها لم تستطع أن تدمر روحه، وإن النبت الشيطاني الذي تكاثر كالفطر في ظل مناخاتها المسمومة، متخذاً أشكال “المؤسسات”، لتكريس أنماط مموهة من الهيمنة والفئوية، لم يستطع القضاء على “الأشجار الطيبة وفي الطليعة منها هذه المؤسسة العريقة: “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية”.
مع ملحوظة أخيرة يثيرها في الخاطر “المكان” ورصيده في الوجدان الوطني والقومي: فالملعب البلدي ليس مجرد مساحة لممارسة رياضة كرة القدم.. فلطالما “استعاره” العمل الوطني ميداناً لتعزيز الموقف الوطني بالجمهور الوطني.
… ولقد استذكر اللبنانيون، أمس، وهم يتابعون المهرجان الفخم للعيد المقاصدي، المهرجان الذي شكل نقطة تحول في تاريخ لبنان الحديث، وربما في تاريخ المنطقة: مهرجان إعلان الرفض الشعبي القاطع لاتفاق 17 أيار 1983، قبل عشر سنوات تماماً،
وإنها لمصادفة طيبة أن تبدأ المقاصد سنتها السادسة عشرة بعد المائة انطلاقاً من المكان ذاته، ومن المناخ الوطني ذاته الذي أسقط اتفاق الإذعان ذاك.
فيومها أثبت لبنان أنه أقوى من الموت ومن إرادة المحتل الإسرائيلي طالما ظل محصناً بعروبته وبإرادة شعبه الحي الذي أعطى العرب درة عواصمهم لتكون شارعهم الوطني ومنتداهم القومي ومطبعتهم وكتابهم وصحيفة الصباح.
ومرة أخرى مبروك لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية عيدها، ومبارك جهد القيمين عليها والذين أوصلوها إلى وضعها الراهن: عنواناً مضيئاً لقدرة الإنسان العربي على التوغل في قلب العصر من دون أن ينسى أو يغفل عن هويته الوطنية ورسالته القومية.

Exit mobile version