طلال سلمان

على الطريق إلى المحكمة.. من أجل الدولة!

صباح الخير والورد والحب والحق والخير والجمال والعدل، واليوم من “السفير” بالاسم الصريح كما الفجر وقد اكتسب من الوهج الموشى بالعاطفة النبيلة ما يجعلنا نعيش فرحة الولادة الثانية.
… مع إن “السفير” لم تغب ولم تحتجب ولم تخنقها عتمة الصمت التي أرادوا فرضها علينا: كنا نذهب إلى الناس فجاء الناس إلينا، وكنا نحاول أن نرفع صوتهم ونعبر عن همومهم ومطامحهم وشوقهم إلى الحرية، فإذا بهم يهدرون بصوتنا ويتخذون من “السفير” راية لغدهم الأفضل، وإذا هم ينهمكون في العمل معنا وغالباً بالنيابة عنا وكأنهم شركاؤنا بل المعنيون المباشرون بإنجاز مهمة عظيمة هي إعادة تأسيس “السفير”.
كيف يكون الشكر لمن جعلك تتنفس برئته وتجدد بقلبه دمك وتؤكد انتماءك إلى أرضك باسمه وهويته وصدق تعبيره عن روح الأمة؟!
الشكر نقدمه جهداً على جهد، ومزيداً من التعب والتدقيق والموضوعية والمتابعة والسعي لاستكمال صورة الحقيقة، بحيث نساعد على خروجنا جميعاً من وهدة الهزيمة ومن غياهب الزيف والتزوير والتضليل لتحويل الشعب إلى قطيع يسلم – عاجزاً – بما يدبر له، ويترك الأمر لأولي الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
الشكر أن نقتحم، مرة أخرى، المستحيل فنصدر صحيفة القضية، بعدما جعل الناس من “السفير” قضيتهم، لاسيما وإن اللبنانيين يرون في عودة “السفير” إليهم انتصاراً لحرياتهم ولكرامتهم ولثوابتهم الوطنية، في حين يرى سائر العرب إنهم قد استعادوا “واحتهم الديموقراطية” وصحيفتهم – الراية!
أما الشكر المباشر والمحدد فلاثنين:
*أولهما ذلك الذي تسبب، نتيجة تهورأو تسرع أو سوء قصد، في أن يمنحنا هذه المناسبة الذهبية لنتحقق من أن المجتمع المدني في لبنان، بمختلف رموزه، بألف خير، وإنه قد استعاد روحه وحيويته وحساسيته البالغة تجاه قضية الحرية، حرية أن يعرف وأن يقول وأن يعترض وأن يختلف مع حاكمه متى رآه قد أخطأ.
*وثانيهما ذلك الصديق القديم العزيز، محسن إبراهيم، الذي استضافنا في الزميلة “بيروت المساء”، متقدماً صفوفنا، مرشداً خطواتنا، مسدداً “رماياتنا” دفاعاً عن القضية العادلة للناس جميعاً، داخل لبنان كما على امتداد الوطن العربي الكبير.
“عاشق الشمس، والعشق ذوب النور المضمخ بعرق السهر، يمتشق عينيه وفكره ودمه، أحياناً، ليحتفظ بمكانة فوق أهدابها، محاصراً بين صبحين: يخاف أن يسبقه الأول فينطفئ، ويسهر مؤرقاً في انتظار الصبح الثاني متوهماً أنه السبب في انبلاجه المدوي بفرح التجدد ونشوة الامتلاء بالحرية…
“… و”السفير” توأم الصبح وبشارة الغد، حرمت مثلكم جميعاً من أن تعيد الربيع الذي ولدها طوال ليل الجدب والعسف والبؤس الذي امتد دهراً بالحرب التي التهمت أعمارنا وأمانينا وأحلامنا السنية…
“… فلا عيد لـ “صوت الذين لا صوت لهم” في غيابهم.
“أما الآن وقد استعدنا القدرة على التواصل معكم والوصول إليكم، وانفتح باب الحوار حول الهموم الوطنية والقومية، فإن “السفير” ومعها سائر الزميلات مطالبة بأن تستعيد أهليتها المهنية ودورها في خدمة الحرية…”.
كلمات قلناها في احتفال “السفير” بربيعها العشرينن قبل بضعة أسابيع، وها نحن نرددها الآن وقد استعجلوا ربيعنا الحادي والعشرين، بل يوبيلنا الذهبي، وقد حضر الذين لا صوت لهم أعظم الحضور فأطلقوا حناجرهم بالحداء للحرية اعتراضاً على محاولة إسكات آخر صوت يلهج بهمومهم.
كنا نفترض أن الحرب قد باتت خلفنا، وإن “تراثها” في طريقه إلى الاندثار مسقطاً السلاح ولغة القهر والمتاجرة بالأحياء والأموات، وإننا عرفنا أخيراً باب الدخول إلى دولة المواطن، دولة القانون، دولة المؤسسات، حيث لا فرض ولا كم أفواه ولا خطف إرادات ولا مصادرة رأي (كما البيوت والأراضي والأموال والمصالح في زمن الميليشيات)…
وكنا نتطلع إلى مشروع الدولة بأمل، ونحاول تحصين محاولات بنائها بالنقد، والتنبيه إلى المزالق والأخطاء والانحرافات والارتكابات السياسية والنزوات الشخصية، تارة باسم الطائف وطوراً بتجاوز الطائف ودائماً بذريعة تأمين حقوق الطوائف.
وكما وما زلنان نحاول توسيع دائرة الحوار بهدف تجديد الحياة السياسية حتى لا يقتلنا الخواء والإفلاس مكملاً مهمة المدافع والقنص العشوائي… وكان طبيعياً أن نتجه إلى الحكم، بمؤسساته، طالما أنه احتكر لنفسه وبنفسه حق العمل السياسي حاشر الأطراف جميعاً في “الحكومة – الكيس”.
وكنا وما زلنا نحرض الحكم على طرح رؤياه لغد لبنان وموقعه في قلب حركة أمته، خصوصاً وإن التحولات ترج الكون كله فتسقط الإمبراطوريات والعقائد والأنظمة المشلولة بالعجز الذاتي أو بالتخلف المفروض.
كنا وما زلنا نبحث عن حكم ذي حلم فلا نجد غير مختصمين على الأسلاب.
وكنا وما زلنا نطالب بحكم ذي بصيرة قادر على استشفاف التطورات، داخل منطقتنا، خصوصاً وإن المفاوضات المباشرة مع العدو الإسرائيلي قد بدأت فعلاً وهي لا بد لها أن تنتهي بنتائج معينة كفيلة بإعادة رسم الخرائط (والكيانات ربما) واستيلاد حقائق سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعسكرية جديدة وغير مسبوقة، ولا بد من الاستعداد لها والإعداد لاستيعابها حتى لا يذهب بنا الطوفان.
وكنا نحاول، وما زلنا وسنسىتمر نحاول، أن نستكشف أولويات الحكم لنساعده في التعبئة والتنوير بحيث تصير أهدافاً وطنية يجتمع الشعب (وبقدراته الذاتية) على إنجازها.
لكننا، ومع الأسف، كنا نصطدم بحكم أخرس وعيي في الشؤون المصيرية ، هائل الفصاحة في الصغائر واليوميات والتكتكات والمناكفات الشخصية.
وتكاملت الفضيحة في ذلك البؤس المدقع في الخطاب السياسي للحكم الذي كان يكشف – يومياً – هشاشة تركيبته فيبدو وكأنه حكم غير سياسي!
كنا نطلب الدولة فلا نجد غير “أصحاب دولة” يعتبرون الحكم حقاً موروثاً أو مكتسباً، ولكنهم لا يرون أنفسهم معنيين أو مؤهلين بالقدر الكافي لمشروع تاريخي كالذي يواجههم فيهربون منه إلى ما اتقنوه على الدوام: المياومة وتقطيع الوقت، مع دغدغة مطامح الناس تارة بزيادات في الرواتب غير محسوبة بدقة بحيث تتحول إلى كارثة اقتصادية على المجتمع والدولة، وطوراً بالقفز من فوق مشكلاتهم الحياتية والتحليق في سماء الأوهام عالياً طلباً للعام 2002!
المصالح الذاتية فوراً، أما مصالح الناس فلا بد من برمجتها في خطة نهوض اقتصادية لفقت على عجل ووضعت على النار لعل النعس يأخذ الأطفال إلى النوم فيشغلهم عن البحص الذي لن ينضج أبداً.
مع كل ذلك بقينا والناس نطلب الدولة، ونطلب الحكم ونطلب القانون، ونستجعل ولادة المجتمع المدني، فنهلل لتجديد النقابات المهنية، ونتغاضى عن تجاوزات وخلل جدي وتعثرات ألحقت بعض التشوه بنتائج الانتخابات النيابية.
لم يكن بيننا واحد لا يريد “دولة القانون”، لاسيما نحن الذين قوتلنا لأننا وقفنا ضد عبث الميليشيات وتحولها إلى عصابات ومافيات.
ولقد ارتضينا، ولو كارهين، أن تستوعب الدولة الميليشيات، مفترضين أن الدولة ستكون هي الأقوى فتذيبهم فيها بدول أن يظلوا يتناتشونها تارة من خارجها، وطوراً من داخلها، وأحياناً باسمها وبأختامها الرسمية.
وكنا، تقديراً منا للظروف الصعبة، نقبل المماطلة، ونغض الطرف عن القصور في المعالجة، بل وندافع عن البطء في الإنجاز، بأمل ان يتنبه الحكم وأن يستكمل عدته فيبدأ العمل بعد إنجاز برنامجه وتحديد أولوياته ورسم خطة سيره.
لكن الأيام كانت تمر سراعاً، والأزمات تتفاقم من دون أن تظهر أية بوادر جدية لعلاج جذري، في أي مجال.
تراكمت الأزمات واتسعت رقعتها فشملت مختلف القطاعات التي أخذت ترفع صوتها بالاعتراض والاحتجاج: من الصناعيين إلى التجار، ومن الفلاحين والزراع إلى أساتذة الجامعة، ومن الموظفين إلى العمال وذوي الدخل المحدود.
وبلغ السيل الزبى حين ارتفع أنين أهل القضاء، ثم حين تفجرت مظالمهم استقالات وتهديداً بالسلبية.
بالمقابل كانت الفوضى الإعلامية، لاسيما في مجال الأعلام المسموع والمرئي، تتعاظم ويدخل فيها بعض الحكم طرفاً، فينشئون محطات بلا ترخيص أو يدخلون شركاء في محطات يعرفون إنها غير شرعية، متعهدين – دائماً – بالعمل على إنجاز قانون عصري للأعلام يكاد الحديث عنه يتحول إلى نكتة سمجة… وهكذا بقيت الفوضى، ولم يتيسر للدولة أن ينهي هذا السطو على الهواء، والتسلل إلى وجدان الأطفال، في غرف نومهم من دون رقابة أو ترشيد أو سياسة تراعي احتياجات هذا المجتمع الخارج مثخناً بالجراح والتشوهات من حرب ذهبت بمعظم قيمه وتقاليده… بل لقد ساهم غياب دولة القانون في طرحه لقيطاً على عتبة النظام العالمي الجديد واقتصاديات السوق ومبتدعات المجتمع الاستهلاكي الذي تهاوت فيه العقائد والأيديولوجيات أمام المخدرات والعنف والجنس والخيال العلمي الجموح المضبوط بمقتضيات الحرب الباردة.
هل نقول إننا “من بيت أبي ضربت”؟!
أنحن الخارجون على القانون، والمطالبون، بأن نكون فوق القانون، وقد بحت أصواتنا من المطالبة بتطبيق القانون، ودفعنا من لحمنا كل قرش ترتب علينا لضريبة الدخل أو لصندوق الضمان الاجتماعي أو كرسوم واشتراكات في الهاتف (الذي نادراً ما كان يعمل) وفي الكهرباء (التي اضطرنا انقطاعها إلى شراء ثلاثة مولدات ضماناً لانتظام صدور “السفير” في مواعيدها؟!)
أنحن المهددون لأمن المفاوضات، وقد “ابتلعنا” موقفنا المبدئي الذي لما يستسغ فكرة الجلوس مع العدو وجهاً لوجه، وسهرنا الليالي الطوال على امتداد سنة ونصف السنة ومنذ مؤتمر مدريد وحتى اليوم، نتابع أخبارها ونتحرى تفاصيلها، وننشر ما وصلت إليه أيدينا من الوثائق المعززة للحق العربي ولمواقف الوفود العربية المفاوضة والوفد اللبناني أساساً؟!
أنحن من لا يقدر حساسية هذا الشأن المصيري؟! أين نذهب إذاً بشهادات التقدير والثناء، التي تلقيناها من كل الوفود العربية، ومن الوفد اللبناني تحديداً، ومن كبار المسؤولين في لبنان وخارجه؟!
أنحن من يعكر علاقات لبنان الخارجية، ومكاتب “السفير” التي صارت نادياً سياسياً هي بعض معالم بيروت، يؤمها دورياً سفراء الأقطار العربية الشقيقة وكذلك سفراء الدول الكبرى ودبلوماسيون من مشارق الأرض ومغاربها، يشهدون لها بالدقة والموضوعية وغزارة المعلومات إضافة إلى وضوح الموقف القومي الساطع؟!
هل نناقش حكاية إننا خدمنا العدو بفضح نوايا العدو الإسرائيلي وتمسكه باحتلاله بعض ترابنا الوطني، أم أن النقاش يرد هذا الافتراء البشع على مطلقيه، ويعجل في تحويل المشكلة التي أطلقها ذلك القرار السياسي الأهوج والمتعسف إلى أزمة حكم، كما “بشرت” نذرها التي لن يخفيها سيل الكلام عن وحدة الحكم والتضامن الوزاري المثالي!
لنترك ذلك كله للقضاء، فإنما إلى حصن الحرية وضمان الديموقراطية ومرجع العدالةن نحتكم.
و”السفير” تذهب إلى محكمة المطبوعات وهي قضية تخص كل مواطن، كما عبرت انتفاضة التضامن الرائعة معها، وكما يعبر هذا الحشد من رموز المجتمع المدني ا لذي يواكبها اليوم لكي يشترك مع القضاء في تحصين الحرية وحماية حق المواطن في أن يعرف وفي أن يقول وفي أن يختلف مع حاكمه، إذا أخطأ.
فذلك كله قد يساعد في بناء الدولة وتعزيز روح القانون، وقد يصير بشارة بعودة الروح إلى هذا المجتمع الهائل الحيوية والبالغ الحساسية تجاه كل ما يمس الحريات، والعظيم التشوق إلى دولة القانون العتيدة.
مع استدراك: إن الدولة العصرية لا تبنى بقوانين استبدادية هي بعض مخلفات القرون الوسطى وزمن الاحتلال والدولة – المزرعة التي قيل لنا أن اتفاق الطائف قد أنهاها ليبني من ركامها “الجمهورية الثانية” التي لا نعرف لها بعد ملامح نهائية.
نذهب إلى القضاء ولا خصم لنا إلا الخطأ: الخطأ في التقدير، والخطأ في القرار، والخطأ في الاستهداف.
ونتمنى أن يكون وقوفنا أمام محكمة المطبوعات خطوة واسعة على طريق استحضار الدولة العصرية، بالقانون العصري، بالقضاء المحصن باستقلالية منيعة.
ولا يمكن أن تقوم مثل تلك الدولة إلا إذا تعززت الحرية بالصحافة، فالصحافة الحرة، أي المعارضة، هي الإعلان الحقيقي عن ولادة دولة القانون.
وسلام على من أتبع الهدى.

Exit mobile version