طلال سلمان

على الطريق إلى أين بعد جلسة الخميس… ومن وكيف يصنعون الرئيس؟!

أما وقد انتهى “الفصل الأول” من فصول “معركة” رئاسة الجمهورية بالنتيجة التي “تفرج” عليها اللبنانيون يوم الخميس الماضي، فلنحاول معاً أن نمد البصر نحو الفصول التالية، مع إعادة قراءة لما كان، علنا نستطيع توفير جواب مقنع للسؤال الملح: – ماذا بعد، وإلى أين من هنا؟!
وفي وصف ما حدث يمكن أن يشار، سريعاً، إلى الحقائق الصغيرة الآتية، ولو من باب التذكير:
1 – كان الباب مفتوحاً لاحتمالات التفاهم في الداخل، بين القوى السياسية المعنية، لو إن وهم التجديد قد ضرب هذه الاحتمالات جميعاً وعطلها، وأضاع فرصة أخيرة للتفاهم مع دمشق وعبرها.
حتى من قبل لقاء الجزائر، كان الجو السياسي العام، متأثراً بواقعة قرب انتهاء الولاية وضرورة التفاهم على رئيس جديد، قد صار مهيأ لقبول مبدأ البحث في صورة الغد والطريق إليه.
يكفي التدليل بالتناقص المطرد في مطالب الاصلاح السياسي التي كانت تحملها أوراق العمل الطائرة من بعبدا إلى دمشق عبر واشنطن لكي تنتهي بها فتعود منها مجدداً إلى دمشق فبيروت ثم تأخذ طريقها إلى واشنطن ومنها إلى قصر بعبدا وهلم جرا، حتى داغ أصحاب المطالب وغرق الخبراء في محاولات يائسة لفك طلاسم الرموز والايماءات والمعاني الفعلية للكلمات والمعاني التي تحتشد في الأوراق الطائرة.
كانت المطالب قد شحبت حتى صارت مضحكة ومعيبة، وأتفه من أن تبرر خلافاً عارضاً فكيف بحرب أهلية؟!
2 – إن لقاء الجزائر، على هامش القمة، بين الرئيسين أمين الجميل وحافظ الأسد، ثم بينه وبين نائب الرئيس عبد الحليم خدام، وبحضور رفيق الحريري، توافرت فرصة نادرة للتفاهم على صورة الغد، مع تجاوز أسباب الاختلال التي ضيعت الأمس واليوم.
كان العرض صريحاً ومباشراً: تعالوا إلى كلمة سواء. تعالوا للتفاهم.
ولم يسلم اللقاء من اعتراضات، ولا مر هذا العرض من دون انتقاد. وكان طبيعياً أن ترتفع في بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع وبعض الجبل، أصوات غاضبة تقول: لقد التزمنا بسياسة المقاطعة على امتداد عامين، فما بالهم يتواصلون معهم ويهملوننا نحن؟!. لكأننا صرنا نحن المقاطعين وهدف المقاطعة؟!
3 – تتمة للقاء الجزائر، وتحت عنوان الرغبة في التفاهم، أوفد رئيس الجمهورية الوزير جوزف الهاشم إلى دمشق فالتقاه الرئيس حافظ الأسد لمدة ثلاث ساعات، بأمل أن يكون حامل عرض مقبول يمكن “تسويقه” في أوساط المعارضين السياسيين للحكم في لبنان من حلفاء دمشق وأصدقائها.
لكن الموفد لم يكن يحمل ما يستحق العناء، ولا هو كان مخولاً بالبحث الجدي والحاسم، وكان أقصى ما يستطيع تقديمه: أن يحمل توكيداً للرغبة في تفاهم مباشر، محدد وصريح، للخروج من المأزق.
ومرة أخرى تعرضت دمشق وقيادتها لحملة نقد علني وعبر الهمس اللاذع: كيف يخص موفد الجميل بهذا التكريم والاهتمام، بينما لا تلقى القيادات الإسلامية (والوطنية) الرسمية مثلهما؟!
في أي حال فإن الموفد عاد وهو يكاد يطير من الفرح، متصوراً إنه حقق إنجازاً تاريخياً وإن أمين الجميل سيرد على التحية بأحسن منها، وفوراً، فيهتدى أخيراً إلى الباب المرصود للأزمة اللبنانية المستعصية على كل حل؟!
لكن الموفد “الساذج” فوجئ بما لم يكن في حسبانه:
فلا الرئيس الجميل أسعده العرض الآتي من دمشق للتفاهم على رئيس،
ولا هو كان سعيداً بنجاح موفده، وهو الذي وصفه يوماً بقوله “هذا الرجل لوحده، من حزب الكتائب كله، من وقف إلى جانبي في لحظات الشدة، لوحده كان معي وظل معي”.
ثم إنه لم يرد على العرض وعلى رسالة الاستعداد للتفاهم، بل هو ركب المروحية وقادها بنفسه في اتجاه “القطارة” حيث كان يعتصم “الشريك المضارب” قائد ميليشيات “القوات اللبنانية”.
وإذا كانت الأعطال التي تشل التيار الكهربائي في لبنان مصيبة تقهرنا وتفرض علينا أن نعيش على العتم وفيه، فلقد كانت صاحبة فضل في إنقاذ حياة الرئيس أمين الجميل ومعه البقرادوني لسان “الحكيم”، ومن قبله لسان “البشير”، ومن قبله “الأمين”، ومع هؤلاء دائماً آخرون يفوضونه بالتفكير والنطق وترتيب العلاقة وله ما يرضيه…
المهم إن أمين الجميل ترك حافظ الأسد ينتظر جوابه، عبثاً، وقصد هو إلى سمير جعجع لكي يتفقا على خطة مفادها: لن نعرض عليه الأسماء التي نريد فعلاً حتى لا نحرقها، ولن نعرض عليه الأسماء التي لا نريد حتى لا نكشف أوراقنا أمامه، هيا إذن نعرض عليه أية أسماء، ولنكن جبهة واحدة في مواجهته.
وليس إلا بعد ثلاثة أسابيع، وعبر قناة غير ذات صفة، حتى بعث أمين الجميل برده على العرض السوري للتفاهم.
وكان يعرف سلفاً إن “الرد”، وبغض النظر عن مضمونه، قد احترق سلفاً، ولم يعد ممكناً قبوله، لأسباب بعضها يتصل بالشكل والأهم يتصل بالمضمون.
لماذا فعلها أمين الجميل، وبهذا الأسلوب؟!
الجواب مفهوم ومعروف، فأمين الجميل وحتى هذه الساعة، يعيش وهم التمديد أو التجديد أو الاستمرار في الحكم بقوة الفراغ الدستوري الناجم عن تعذر انتخاب خلف له، في ظل الظروف السائدة.
إنه لا يصدق إن رجلاً آخر سيدخل قصر بعبدا في 23 أيلول ليأخذ منه المنصب الفخم.
ولأنه لا يتصور مثل ذلك الأمر، ولأنه يحيط نفسه ببطانة سوء وحاشية من المنافقين والمتسلقين الصغار والمنتفعين باختلاس السلطة، فإن كل “المعلومات” التي تطرح أمامه تؤكد إن “لا حل ولا خلاص إلا باستمرار فخامتك في رئاسة الجمهورية”.
وهم يقدمون المعلومات مفصلة ومدعمة بالحجج والبراهين القاطعة!
** يقولون له فيصدق: “- إن المسلمين عموماً معك. السنة بالإجماع، ومن الشيعة لك أكثرية الثلثين أو يزيد، أما الدروز فمنقسمون مناصفة بين وليد جنبلاط وبينك… يبقى المسيحيون، وهؤلاء لا خيار لهم غيرك، فأنت سليل بيت القيادة الشرعية للطائفة المارونية وللمسيحيين عموماً. أنت ابن الشيخ بيار. أنت زعيم الكتائب. ومن يدعي قيادة الحزب أو عسكره (“القوات”) هم من صبيانك متى جد الجد. فأقدم ولا تخف شيئاً!!”.
** ويقولون له، فيصدق: “- إن فرنسا معك، وها هو فرنسوا دي غريسوفر لا يني يؤكد لك موقف بلاده ورئيسها. دعم البيانات الرسمية جانباً. إنها كلام للاستهلاك”.
** ويقولون له، فيصدق: “- إن الإسرائيليين، وبرغم ما كان بينك وبينهم يفضلونك على أي مرشح آخر، فمن يريدونه لا يمكن أن يصل، ومن سيصل لا يمكنهم القبول به. ولذا فأنت تمثل أفضل حل ممكن بالنسبة إليهم”.
** ويضيف كبيرهم الذي علمهم السحر، فيقول ويصدقه الشيخ أمين: “- ثم إنها سنة انتخابات في إسرائيل، والليكود بالتأكيد سيفوز. وبين الليكود وبين السوريين حساب، وسيحاول أن يصفيه بمجرد استقلاله بالسلطة واستقراره فيها. وكل المطلوب أن نكسب بضعة شهور، ثلاثة أو أربعة شهور على الأكثر. بعدها لن يكون إلا ما تريده في لبنان، فاطمئن ولا تستسلم”!
** ويقولون له، فيصدق: “- أنت غير مطمئن إلى موقف الإدارة الأميركية، وتستريب في أنها تحاول عقد صفقة على حسابك مع السوريين. ولكن، هل نسيت إنها سنة انتخابات في الولايات المتحدة، وإن كلام الإدارة، الآن، لا يعني شيئاً؟!. والأميركيون، كما تعرف، عمليون جداً، فإن وجودك رابحاً تبنوا نجاحك، ولكنهم لن يخوضوا المعركة بالنيابة عنك. سيقولون كلامهم المعتاد، إنهم مع الشرعية والسيادة والاستقلال ومع دور سوري ما في لبنان، أما الكيفية نستطيع التحكم بها. فهيا أقدم ولا تخف. اثبت إنك الزعيم المسيحي الأول. احتو “القوات اللبنانية”. احتو الجيش وحجم دور العماد المغرور. اشطبه كاحتمال جدي مقبول. وبعدها لا يكون إلا ما تريد”!
4 – في الوقائع أيضاً فإن الجواب “الرسمي” الذي بلغه أمين الجميل لدمشق قد وصلها بعد إعلان الرئيس سليمان فرنجية ترشيح نفسه للرئاسة، وقبل أربع وعشرين ساعة فقط من موعد جلسة الخميس.
وكان من حق دمشق ألا تنظر فيه، أصلاً، وأن تمضي في موقفها المفهوم والمقدر سلفاً، إذا ما أعلن فرنجية ترشيح نفسه فنحن معه ولو خسر.
وليس سراً إن دمشق قد أخرت، وأكثر من مرة، جوابها الحاسم لسليمان فرنجية. طلبت إليه أن يدرس الوضع جيداً، وأن يجري اختباراً لمدى التأييد الذي يحظى به في أوساط المسيحيين خاصة. واستمهلته لكي تستجلي هي الموقف على الطبيعة.
وكان واضحاً ومعروفاً إن دمشق تريد أن تعرف، قبل إعلان موقفها النهائي، نتجية اتصالات “الخط المفتوح” مع الولايات المتحدة الأميركية حول الوضع في لبنان، عموماً، وحول معركة رئاسة الجمهورية بالتحديد.
5 – وفي الوقائع أيضاً وأيضاً فإن الموفد الأميركي ريتشارد مورفي قد حاول، خلال زيارته الأخيرة لدمشق، أن يستجلي موقف قيادتها من المرشحين جميعاً، ولكنها تجنبت الدخول في استعراض الأسماء، متسائلة ما إذا كانت واشنطن ما زالت ملتزمة بالاتفاق الأولي الذي تم فيه وضع الأسس والمواصفات و”المبادئ العامة” لعلاج الوضع المأزوم في لبنان.
وليس سراً إن دمشق اعتبرت إن واشنطن خرجت على هذا الاتفاق الأولي مرتين في أقل من ثلاثة شهور:
فهي قد خرجت عليه للمرة الأولى حين عرض جورج شولتس على الرئيس أمين الجميل في لقاء لارنكا السريع ما تم اعتماده في دمشق كاتفاق نهائي على إنه مجرد “ورقة عمل” له حق تعديلها بالحذف أو بالاضافة.
وكانت صيغة ذلك الاتفاق النهائي تقضي بأن “يتولى الطرفان السوري والأميركي، فرض ما تم الاتفاق عليه على مختلف الأطراف اللبنانيين، لأنهم عاجزون عن التوصل إلى اتفاق مباشر في ما بينهم، ولأن أي اتفاق يقبله طرف سترفضه الأطراف الأخرى، وإذن فلا بد من فرض الاتفاق عليهم فرضاً، ولن يكون في وسع أي طرف لبناني “أن يرفض اتفاقاً أقرته كل من دمشق وواشنطن معاً”.
أما الخروج الثاني فقد تمثل في تبني وجهة نظر فريق الحكم الانقلابي الكتائبي من موضوع معركة الرئاسة والمرشحين فيها.
كان الاتفاق الأساسي يقضي ، “بداهة، باستبعاد “المتطرفين”، في المعسكرين، وباعتماد تسوية مقبولة من مختلف الأطراف السياسية في البلاد عدا “أحزاب الله” على الضفتين.
فلما ذهب مورفي ليعرض في دمشق منطق الحكم الكتائبي القاضي بشطب بعض المرشحين (بالفيتو) وتزكية غيرهم ممن يحققون “مصالح المجتمع المسيحي وأمنه” كان طبيعياً أن ترد دمشق بالقول: “أما نحن فإننا ندعم مرشحاً واحداً هو سليمان فرنجية”.
كانت دمشق ترد على الهجوم الأميركي المتحصن خلف متراس الحلف الاضطراري بين جناحي الانقلاب الكتائبي أمين الجميل و”القوات اللبنانية”.
ولأن الهجوم الأميركي استمر في تعزيز مواقعه فقد كان طبيعياً أن ينضم العماد عون إلى ذينك الحليفين اللدودين ليقوم، من ثم، “الحلف الثلاثي الجديد” كقوة تحكم بمسار معركة الرئاسة ونتائجها.
من هنا كانت تلك “المناظر” من “الفيلم الأميركي الطويل” يوم الخميس الماضي،
في واشنطن يعلنون، سلفاً، إن الجليسة لن يكتمل نصابها، وإن الانتخاب لن يتم،
وعلى الأرض تتوزع جماعات أمين الجميل و”القوات” وقيادة الجيش الأدوار، فلا يصل إلى المقر المؤقت للمجلس الممدد لنفسه إلا 38 نائباً، أي النصف تماماً (من عدد النواب الأحياء!!)… ولا يسمح بالعبور من “الشرقية” إلى الغربية إلا لرجلين اثنين وبالاسم: ألبير مخيبر، نائب رئيس المجلس والوجه الشعبي والرجل الصلب في مواقفه والمعروف بأنه يموت ولا يتراجع، وكامل الأسعد الذي ربما باغتهم بأنه قصد إلى المجلس، ولكن منعه يحرجهم ويربكهم ويفقدهم صلة الوصل الأخيرة مع … المسلمين، بمن في ذلك من يقيم بين ظهرانيهم، بالرغبة أو بالاضطرار!
ماذا بعد، وغلى أين من هنا؟!
لا نعتقد إن كثيراً من اللبنانيين يملكون جواباً جدياً على مثل هذا السؤال الخطير.
ولكن يمكن تسجيل بعض الإشارات أو بعض الاضاءات على جوانب من الصورة، قد تساعد على توفير صياغة أولية لمشروع جواب ما،
فالمؤكد إن الرئيس فرنجية، الذي حوله الفيتو الأميركي (وضمناً الإسرائيلي) من مرشح قوي إلى قضية، لن يتراجع وسيكمل معركته في مواجهة الحلف الثلاثي الجديد الذي كان يصوره خارجاً على المسيحية والمسيحيين، ناقص الولاء للبنان وعميلاً “للاحتلال السوري”!!
والمؤكد إن دمشق ستستمر في دعمها لترشيح الرجل الذي خبرت فيه الصدق في المعاملة والصداقة والالتزام معها في عهوده ومواثيقه.
على إن واشنطن هي التي ستتحرك الآن عارضة صيغاً عديدة للتسوية والحل الوسط.
ولقد صدرت أولى الإشارات عن أمين الجميل بالذات،
فلقد اتصل بعض أمناء سره عشية الخميس بمن يمثلون دمشق في بيروت ليقدموا عرضاً جديداً (قديماً) للتفاهم على مرشح “توافقي”… وكانت اللائحة تتضمن ثلاثة أسماء، يعرف أمين الجميل إن دمشق تفضل سليمان فرنجية في الأحوال العادية، فكيف وهم يقدمون قبل ساعات فقط من الانتخاب، وبعدما أعلن فرنجية ترشيحه والتزمت دمشق بتأييده؟!
لكن المناور المحترف ما زال هو هو، ففي حين كان بعض جماعة أمين الجميل يعرضون هذه الصفقة، البائسة، كان الاباتي بولس نعمان ينشط لضمان التنسيق بين أطراف الحلف الثلاثي الجديد، فيرعى اجتماعاً بين الأجهزة الأمنية التابعة لكل من الجميل – “القوات” – وقائد الجيش، لإقرار الخطة التنفيذية لتعطيل النصاب في جلسة الخميس (عرضت أسماء النواب اسماً اسماً، واتخذت التدابير بالنسبة لكل نائب على حدة)…
أما واشنطن فقد تركت لبعض مسؤولي الخارجية أن يروجوا لاحتمال إرسال موفد جديد، خلال الأيام القليلة المقبلة، وقبل الجلسة الثانية التي يفترض أن تكون خلال الأيام العشرة الأولى من أيلول،
الطريف إن الحلف الثلاثي الجديد كان يصور، في إعلامه، ريتشارد مورفي وكأنه “سوري” الهوى، ويطالب بإيفاد الجنرال… وولترز وكأنه عضو مؤسس في حزب الكتائب وعدو لدود لكل خصومه السياسيين.
لعل وولترز يكون أسعد حالاً من مورفي الذي غادر دمشق واعداً بأن يوافيها بجواب نهائب خلال ثماني وأربعين ساعة، على الأكثر، ثم لم تسمع منه شيئاً حتى الساعة.
وكان ذلك بين أسباب احتدام الاستقطاب… في جلسة الخميس!!
ماذا بعد، وإلى أين من هنا؟!
ليس سراً إن “جلسة الخميس” قد طرحت، على بساط البحث العلني، ولأول مرة بهذا المستوى الجدي، مسائل مصيرية تمس جوهر النظام اللبناني ومواقع السلطة فيه، وكوتا الطوائف فيها…
فلقد وجد الناس أنفسهم أمام معادلة غريبة وغير مقبولة، قوامها الوقائع الآتية:
أ – لمجرد إن “العرف” المعزز بما اتفق على تسميته بالضمانات أو الامتيازات، يفرض أن يكون رئيس الجمهورية من الطائفة المارونية، فإن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين لا يهتمون بها الاهتمام الكافي، إن واحداً من سبعة من اللبنانيين هو المعني، أما الستة الآخرون (من المسلمين والمسيحيين غير الموارنة) فخارج البحث.
ب – نأتي إلى الموارنة أنفسهم.
إن أكثريتهم الساحقة خارج البحث. وثمة في أحسن الحالات واحد في الألف معني (50 مرشحاً على نصف مليون نسمة).
ج – ليس للخمسين مرشحاً الحقوق ذاتها والاعتبار نفسه. فالطارئون، والأدعياء، والذين من خارج نادي الرئاسات والرؤساء، والذين يحاولون فرض أنفسهم بحجة إنهم من أهل التغيير… كل هؤلاء في المرتبة الثانية، هذا إذا لحظ ترشيحهم!!
د – من هؤلاء جميعاً لا يتبقى أمام اللبنانيين من مجاجل للاختيار والمفاضلة إلا بين بضعة مرشحين ينتمون إلى عائلات رئاسية، أو عائلات أكسبتها الصلة العميقة والنفوذ الأجنبي (الأميركي تحديداً) مشروعية التنطح لتصدر الحياة السياسية في لبنان.
لكن هؤلاء وأولئك عليهم أن يخضعوا لامتحانات قاسية يفرضها الحكم الانقلابي الكتائبي ممثلاً الآن بأطراف الحلف الثلاثي الجديد:
فالمنادي بالتغيير، خارج الطائفة، سيقاتل داخلها بضراوة حتى يتوب أو ينبذ،
والأحد طائفية في داخل الطائفة، هو الذي يخول بأن يمد يده بالمصالحة إلى الطوائف الأخرى،
وعلى الطوائف الأخرى أن تكون، أولاً، طوائف، ثم أن تتعاطى مع الموارنة بسحب درجة طائفيتهم: فالمعتدل مرفوض، والمتسامح مرذولن والمعترف بوجود سوريا (في التاريخ والجغرافيا) ومن ثم بدورها في لبنان، خائن ومحروم من حقوق الترشيح وتصدر المجلس!
هـ – في ضوء هذا الواقع الكريه، يصبح بإمكان أية عصابة صغيرة مسكونة بالتعصب الطائفي، متاجرة بخوف المسيحيين من جيش الغيلان المسلمين الزاحف (إلى أين؟!)، أن تتحكم بدورة الحياة السياسية وبوقائعها،
وفي العام 1968 تمكنت عصابة صغيرة ضمت المغفور لهما بيار الجميل وكميل شمعون والذي من الصعب أن يغفر له العميد ريمون اده، من التحكم بدورة الحياة السياسية بما ألغاها تماماً وزج بلبنان في أتون الحرب الأهلية المستمرة حتى اليوم.
اليوم، في النصف الثاني من العام 1988، وبعد عشرين سنة من بداية المأساة، يقف لبنان على حافة هاوية أخطر: فالعصابة الحالية مسلحة، ثم إنها ترتكز على اختراق إسرائيلي جدي للنسيج الاجتماعي في لبنان… هي تمكن له وتحمي استمراره، وهو يحاول أن يفرضها محاوراً أوحد باسم المسيحيين وحاكماً أوحد للبنان باسم الغرب… خصوصاً وإن واشنطن تستخدم هذا الواقع لابتزاز سوريا والوطنيين في لبنان!
ماذا بعد، وإلى أين من هنا؟!
ذلك هو السؤال المطروح على اللبنانيين جميعاً،
وبشيء من الصراحة: على المسيحيين من اللبنانيين، والموارنة منهم بالدرجة الأولى،
وهو مطروح على اللبنانيين قبل أن يكون مطروحاً على دمشق ومن فيها.
فدمشق تعرف، بالتأكيد، كيف تحمي نفسها ودورها ومصالحها في لبنان والمنطقة.
والحرب سجال بين دمشق وواشنطن، لا هي تدور في لبنان ومن حوله فقط، ولا هي ستنتهي بمجرد “التفاهم” المحدود على بعض شؤونه السياسية المطروحة الآن،
ولكن مصير لبنان واللبنانيين هو المطروح على البحث الآن،
فمن يستطيع مواجهة العصابة الجديدة، الحلف الثلاثي الجديد، لكي يفتح باب المستقبل… الباب المطل على مشروع الحل العتيد؟!
ذلك هو السؤال المطروح قبل جلسة الخميس وبعدها على وجه الخصوص.
وهو سؤال صعب جداً ولا يمكن أن يجيب عليه إلا حملة الحلم بلبنان جديد، وبغد أفضل.
… مع الإشارة إلى أن كل ما نراه الآن معرض لأن يزول بأسرع مما نتصور، إذا تبدلت المعطيات القائمة الآن…
وما أسرع ما تتبدل المعطيات، وتتغير العلاقات بين الدول، وما أسرع ما تطير رؤوس الصغار الذين يتوهمون إنهم يصنعون سياسات الكبار!

Exit mobile version