طلال سلمان

على الطريق إلغاء المستقبل… بالماضي!

إنه زمن السباق العربي إلى ولوج العصر الإسرائيلي!
إنه زمن الخروج من التاريخ العربي للدخول في النظام العالمي الجديد بقيادة “السيد” الأميركي المهيمن بلا رادع أو شريك!.
بل إنه زمن الخروج من التاريخ الشخصي والإنكار العلني للذات: لاسمك وهويتك وأبنائك ولون عينيك وبشرتك وأسلافك الذين كانوا، في ماضي الأيام، مثلك الأعلى وقدوتك الصالحة.
وإذا كانت مصر السادات قد سبقت، بعد حروب، فدخلت العصر الإسرائيلي عبر مفاوضات ومعاهدة صلح منفرد عبر بوابة كامب ديفيد الأميركية، فإن النظام الكويتي (ومعه ولو في الظل مملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض) قد دخل ذلك العصر عبر التخلي عن “الأشقاء” المعنيين بالصراع العربي – الإسرائيلي والذين يخوضون “أصعب” حروبهم الآن في واشنطن فغدر بهم مسقطاً مقاطعة المتعاملين مع إسرائيل،
وها هو النظام الأردني يندفع قدماً فيقوم بدور “المخبر الخاص” و”الحارس الشخصي” للأمن الإسرائيلي، ويسلم من “رعاياه” الفلسطينيين أولئك الذين تجرأوا ذات يوم فقاتلوا “العدو” ساعين وراء الحلم السني بتحرير المحتل من أرضهم.
ففي أخبار الأمس أن السلطات الأردنية سلمت إسرائيل فلسطينياً مطلوباً يدعى محمد صلاح البلبيسي (أو المصري) من بلدة سلفيت في الضفة الغربية المحتلة في “عرض للتعاون الأمني السري بين الدولتين”.
وفي الأخبار البلبيسي كان هرب من فلسطين بعدما حاولت السلطات الإسرائيلية اعتقاله لاتهامه بأن له صلة بمتفجرات وقعت في بتاح تكفاه وتل أبيب!!.
ثقيلة هي وطأة التاريخ… فكما لا يستطيع أن يصنعه أو يسهم في صنعه إلا الرجال الرجال، كذلك لا يستطيع حمل أعبائه والقيام بالتزاماته وموجباته إلا الرجال الرجال!.
وكثيرة هي الشواهد عن أولئك التافهين والساقطين والجبناء ممن استهولوا عبء تاريخ أمتهم فاعملوا فيه يد التشويه والتزوير والهدم ومسحوا آثاره الباقيات وأحرقوا الكتب والمراجع والشهود ليطمئنوا بعد ذلك وليهنأوا بحكم “رعية” مجهولة الأصل مقطعوعة الجذور عن ماضيها، كأنما وجدت مصادفة في ذلك المكان وهذا الزمان ولغرض محدد ومحدود: أن يحكمها “السلطان عالي الشأن” ثم تذهب بذهابه إذ تكون قد حققت الغاية من وجودها!
إذاً فلقد بدأت الأنظمة العربية المستسلمة تحاسب، نيابة عن العدو وبالتعاون معه ولحسابه، “مواطنيها” على تاريخهم الشخصي.
بل هي بدأت تطبق عليهم العقاب بمفعول رجعي.
لقد بدأ الحساب على الماضي كله: أيام “الطيش” مما كان يسمى “نضالاً” والاندفاع إلى غمار الثورة عبر “الكفاح المسلح”، وتحدي العدو الدخيل والغاصب، ومقاومة الاستعمار والإمبريالية والجهاد من أجل تحرير الأرض والإنسان.
وعليك أن تتفحص تاريخك كله، وأن تنقيه من الشوائب والتشوهات إذا شئت أن تربح مستقبلك.
فلكي تعيش في الحاضر ويكون لك مستقبل (؟!) عليك أن تكون مسخاً، مجرد مسخ، ليس في ماضيه ما يمكن أن يستفز جلاده الحاكم أو حاكم جلاده.
عليك أن تمارس “النقد الذاتي” فتنكر اسمك وهويتك وأبناءك ولون عينيك وبشرتك السمراء كأرضك، وأرضك ذاتها.
عليك أن تكون لا شيء وتبقى، فممنوع غيابك.
ثم إن العدو قد صادر المنافي، وها هو السيف الأميركي الطويل، يعاون السيف الإسرائيلي الطويل ويقتدي به، فيطارد “المطلوبين” في أربع رياح الأرض ويختطفهم ليمثلوا أمام عدالته فيحاسبهم ويقتص منهم لكي يكونوا عبرة لمن يعتبر.
فامسح تاريخك، وانكر أباك وأمك، والعن أجدادك وأرضك ودينك، وامسخ نفسك مسخاً بحيث لا تتعرف إلى وجهك فيكف إلى رفاق الصبا (رفاق السوء)! إذا شئت أن تبقى آمناً ومطمئناً.
وإلا فإن العدالة الإسرائيلية ستصطادك، وبواسطة حكامك ذاتهم، لتوقع عليك العقاب، وبمفعول رجعي.
والذاكرة الإسرائيلية لا تنسى، كما أن القلب الإسرائيلي لا يغفر، وها هم ينتقمون لثلاثة آلاف سنة مضت من بشر لم يكونوا آنذاك، ولا علاقة لهم بما كان مما سطره التلمود!
… فإذا رفضت فعليك أن تحمي تاريخك بدمك.
والتاريخ، أصلاً، بالدم يُكتب وبالدم يبقى ويصير الانتماء إليه شرفاً.

Exit mobile version