طلال سلمان

على الطريق إعدام قتلة الغد!

بالمصادفة داءت “عيدية” الحكومة للبنانيين مع الفطر “السعيد” إقرار قانون إعداد القاتل، بعد ثلاثة أعوام تقريباً من العفو العام الذي شمل بنعمته آلاف القتلة تمهيداً لأن يعهد إلى “المنتصرين” منهم ببناء “الجمهورية الثانية”.
إنها مسألة حظ: فالقاتل بالأمس “بطل” صنديد، تدين له الرقاب وتأتيه المناصب صاغرة فيشرّفها بأن يقبلها، ويبذل له المتمولون (مصارف وأشخاصاً وشركات ومؤسسات) فضلات مما أعطاهم الله، ليلكون بعد العسر في يسر، وليتفرغ للتفكير بمستقبل “الجيل الجديد”، خصوصاً وإن نسبة “الأيتام” فيه عالية، وأنه يتحمل شخصياً بعض المسؤولية عن هذا التيتيم..
أما القاتل ا ليوم وغداً فمجرم أشر لا بد من إعدامه لأن “لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”… وهو يستحق الإعدام لأنه وصل بعد إقفال باب الامتحان و تسليم المسابقات وإعلان أسماء الفائزين بالجائزة الكبرى.
على هذا لم يتبق لكي يستقيم أمر العدالة، ومن ثم الأمن في لبنان غير إنجاز بعض المهمات البسيطة على هذه الحكومة المذهبة والقادرة على اجتراح المعجزات كما شهدنا في مجالات الكهرباء والهاتف والمواصلات بما في ذلك “قطار الرجل الواحد” الممتدة سكته بين الناقورة والنهر الكبير.
من تلك المهمات “الشكلية”:
1 – إعادة بناء الجهاز القضائي، بمؤسساته جميعاً، ثم برجاله جميعاً.
فليس سراً أن هذا الجهاز يعاني من مشكلات مزمنة، فيها التنظيمي وفيها الإداري، وفيها التأثير المدمر للسياسة وللسياسيين على حركته.
ولقد شهدنا مفارقة عجيبة خلال الشهور الماضية، إذ بقدرة “قادر” اجتاحت الحيوية عناصر معينة في هذا الجهاز فأنجزت في غمضة عين مهمة كانت تحتاج إلى سنوات، لو لم تعصف “الثورة” في جوانب الروتين فتزيله كعقبة كأداء في طريق تخمين العقارات في سط بيروت التجاري، ثم تلغيه تماماً وهي تعيد التخمين (عبر اللجنة العليا) فتستدرك ما وقعت فيه اللجان الفرعية من “هنات هينات” كمثل هدر حقوق اليتامى والأيامى والأرامل وأبناء السبيل!
ثم إن رجال القضاء يعانون من سوء أوضاعهم المعنوية والمادية.
وكيف يمكن للمظلوم أن يكون مصدراً للإنصاف، والمغبون أن يقيم العدل بين الناس، بينما لا أحد ينظر في ظلامته ويساعده في الوصول إلى حقه؟!

ثم إن الجهاز القضائي يعلن من نقص في عديده، هذا إذا ما سلمنا جدلاً بأن رجاله كلهم هم النموذج لقاعدة “الرجل المناسب في الموقع المناسب”…
… وإذا ما سلمنا جدلاً بأن “القضاء الجالس” يجد فعلاً قاعات لائقة ومقاعد كافية لكي “يجلس” ، وبأن “القضاء الواقف” قادر – بحصانته – على تجاوز إرادة السلطان والوقوف في وجهه إذا استوجبت العدالة مثل ذلك الموقف.
والأمر لا يتصل بالأشخاص وكفاءاتهم العلمية ومناقبيتهم، بل بالظروف التي يعملون فيها، وبالضغوط التي يمارسها عليهم السياسيون عموماً، وفيهم من يحكم باسم الشعب، بعدما نال البراءة بالعفو العام وتحوّل من “متهم” على “ديّان”.
2 – إعادة بناء أجهزة الأمن السرية منها والعلنية، الداخلية منها والخارجية، العسكرية منها والمدنية.
ومع التنويه بالجهد الذي بذل خلال السنوات القليلة الماضية فمن المؤكد أن هذه الأجهزة لم تبلغ بعد المستوى الذي نطمح إليه جميعاً، خصوصاً وانها هي الأخرى لا تبنى في صحراء بل على أيدي بناة “الجمهورية الثانية” أنفسهم، وقد تحولوا من “مطلوبين” للعدالة يطاردهم رجال الأمن (ولو نظرياً) إلى سلاطين يختارون لحراسة أمن البلاد والعباد من يطمئنون إلى “إخلاصه” لهم وحرصه على “دولتهم” إضافة إلى سلامتهم الشخصية.
وليس سراً أن بعض حروب أهل السلطان تحتدم أكثر ما تحتدم في ساحة الأجهزة الأمنية، فيرتطم “أهل الثورة” بـ “أهل الثورة” ويتقاطعون ثم يتصالحون على حساب الدولة ومؤسساتها (لاسيما الحساسصة منها) بعد التوافق على الحصص… وفي حساب الحصص لا مجال للكفاءة وإنما للإخلاص والوفاء والتبعية والطاعة المطلقة، عملاً بقاعدة: من يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه.
كذلك ليس سراً أن العديد من رجال الأجهزة الأمنية إنما جاؤوا من الميليشيات، وليس مؤكداً أنهم قد خرجوا منها فعلياً إلى الدولة..
والميليشيات لم تكن، على خطورتها، معاهد في الأخلاق والنزاهة والكفاءة والحرص على العدالة، والأهم: لم تكن للدولة بل عليها.
فكيف و”الجمهورية الثانية” تقوم على تحالف متين بين السلاح والمال، وهو التحالف الذي يتخذ الآن اسماً عصرياً “الخصخصة”، وهو علم تقاسم خيرات الدولة بالقانون، بحيث لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه!
3 – إعادة النظر في العديد من القوانين وفي الإجراءات المعتمدة في عدالة أيام السلام.
وهذه مهمة بسيطة جداً، ولكن إنجازها يتطلب بعض “التعديلات” في الواقع الاجتماعي – الاقتصادي القائم.
فالمشرع لا يبتدع القوانين، ولكنه يستوحيها من حقائق الحياة، ومن القيم والشرائع، ولكن صياغتها النهائية تأخذ في الاعتبار الوقائع الصلبة التي يتشكل منها الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
فجريمة السرقة ليست هي ذاتها في كل مكان وزمان: نهب الرغيف من خباز جريمة، ونهب عاصمة، بالسلاح أو بما هو أفعل!! إنما هو ثورة حضارية تخرجنا من التخلف لتدخلنا في العصر وتملأنا بروحه،
إذاً فلا بد من إعادة النظر في القوانين القديمة في ضوء الوقائع الجديدة التي تحكم مسار مجتمعنا المعاصر، والتي منها تنبع القيم والقواعد السلوكية.
… ولعل الحكومة تستأنف نشاطها غداً، بعد زيارة الحرمين الشريفين وإتمام مناسك العمرة، وهي أكثر أماناً فتتفرغ للمهم من احتياجات البلاد وقد خلت تماماً من القتلة السابقين ومن مشاريع القتلة المقبلين، أو الذين كانوا في الطريق فردعهم القانون الجديد الذي أقر في ليل هادئ بعد إفطار شهي اجتمع فيه كل بناة “الجمهورية الثانية” على وجبة سواء.
ملحوظة: من نافلة القول إن القانون الجديد لن ينفذ فعلياً إلا بعد إلغاء الطائفية تماماً… فمن الصعب تحقيق مساواة مطلقة، طائفياً ومذهبياً في القتلة.
أسهل من ذلك بكثير تحقق المساواة في المقتولين، لكن هؤلاء ليسوا هم الموضوع…
إن الطائفية ستظل تمارس “حقوقها” كاملة حتى يشيب الغراب، وأدل تلك الحقوق أن تترك “قانونها” الخاص بفتك بالدولة.
من يوقف العمل بقانون إعدام الدولة؟!
ذلك هو السؤال الذي لم يجد جوابه في المناقشة العجلى التي جرت بين الحكومة والنواب في المجلس، ليل أمس الأول.
وهو السؤال الوحيد الذي سيظل “معلقاً” حتى “تعلق” الطائفية في حبل المشنقة.
… وهي لن تعلق طالما استمر التحالف بين السلاح والمال وما يأتي به هذا وذاك!
وفي أي حال فعقوبة الإعدام هي إحدى سمات غياب الدولة وليس حضورها، أو هكذا تعوّدنا، نحن المقتولين!

Exit mobile version