طلال سلمان

على الطريق إعادة المهجرين والمشروع التقسيمي.

يتمنى اللبنانيون أن يكون ما سمعوه ويسمعونه عن الاندفاع قدماً في معالجة مسألة المهجرين صحيحاً، برغم أن المناقشات التي جرت وتجري حتى الآن تتسم بخفة وارتجال وعشوائية في إطلاق الأرقام وفي تحديد مصادر التمويل، مما لا يبشر بكثير من الخير.
ومسألة المهجرين، بمضامينها الوطنية والقومية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أخطر من أن تعالج بمخادعة الناس وإيهامهم بما لا تملك الحكومة أن توفره من الإمكانات، طالما ظلت أولوياتها مغلوطة، وربما مشبوهة،
لقد تم توفير الأموال لشركة استثمارية خاصة تحظى بعناية رئيس الحكومة، مثل السوليدير”، بسرعة قياسية، برغم كل الإشكالات الدستورية والقانونية والعملية التي تعترض التنفيذ. وليس سراً أن تعليمات واضحة صدرت لبعض المصارف بتسليف كل راغب وكل “مرغب” قيمة مساهمته، كما أن العديد من أجهزة الدولة ومؤسساتها وبينها القضاء قد سُخرت لإنجاز صفقة العصر تلك.
كذلك فلقد رصدت مبالغ بمئات الملايين من الدولارات لمشاريع وهمية أو مشكوك بجدواها الاقتصادية، أو أنها تستطيع أن تنتظر، من مثل قصر المؤتمرات، أو سكة حديد الراكب الواحد، أو مئات الألوف من أجهزة الهاتف الخليوي الخ…
ثم انكشفت عورات المنطق الأعوج الذي تعالج به هذه الحكومة المسألة الاجتماعية – الاقتصادية، حين خفضت الضرائب على الأغنياء تخفيضاً ملموساً (الدخل، التركات، مخالفات البناء الخ)، في حين رفعت الرسوم وتكاليف الحياة على من كانوا متوسطي الحالي فباتوا فقراء أو كانوا فقراء وباتوا معوزين.
إن قضية المهجرين تحتاج وعياً سياسياً وحساً اجتماعياً لا تملكه هذه الحكومة، مع التنويه بالجهد الشخصي الذي يبذله وليد جنبلاط لفرضها كأولوية لا تحتمل التأجيل.
يتصل بذلك القصور السياسي الذي عالجت به الحكومة موضوع التفجيرات الأمنية.
فبغض النظر عن المسؤولية الجنائية لسمير جعجع في كل ما يتناوله التحقيق العدلي الآن من جرائم الاغتيال السياسي والتفجير المستهدف القتل الجماعي، فإن الأولى بالاهتمام هو إسقاط ذلك المشروع السياسي التقسيمي على قاعدة الفرز الطائفي الذي كان يحمله وينادي به علناً.
القضاء وحده المرجع الصالح لتحديد المسؤولية وإصدار الحكم بحق مرتكبي تلك الجرائم التي هزت اللبنانيين جميعاً وأثقلت على ضممائرهم إذ صورتهم وكأنهم وحوش ضارية لا تأخذهم رأفة بطفل بريء أو بعجوز صائمة أمت الكنيسة صباح الأحد للصلاة،
أما مسؤولية إسقاط المشروع السياسي التقسيمي فهي شاملة، تخص كل مواطن، وهي واجب أهل الحكم جميعاً بل إنها بين مبررات وجودهم في مواقعهم الممتازة.
لقد أدت الأجهزة الأمنية واجبها بكفاءة في مجال كشف الشبكات المنفذة وتوفير الأدلة والقرائن والاعترافات الأولية التي من شأنها مساعدة القضاء على تكوين القناعة ومن ثم إدانة الجناة وإصدار الأحكام الرادعة بحقهم، وفقاً لمسؤولياتهم،
لكن السلطة ما تزال مقصرة ومتهاونة في إدانة ذلك المشروع السياسي المشبوه واعتباره بذاته “أم الكبائر” ومصدر الانحراف الذي أوصل أصحابه إلى ارتكاب الفواحش والمجازر الجماعية والاغتيالات السياسية كخطوات على طريق تنفيذ اغتيال الدولة وتمزيق وحدة الشعب وتبرير التقسيم والهرب إلى الكانتونات، أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية كملجأ من “الاضطهاد الديني” وإبادة النوع!
ولعل بين أسباب ارتباك هذه السلطة أنها ظلت تمالئ سمير جعجع وتداريه وتحاوره وتحتفي به وتدعوه إلى موائدها، برغم معرفتها اليقينية أنه لم يغير حرفاً واحداً من مشروعه السياسي بعد قيام “جمهورية الطائف”، وإنه قد أبقى نفسه عامداً متعمداً خارج إطار حكومات “المصالحة الوطنية”. وإنه حاول إقامة علاقة موازية مع سوريا، على حساب الدولة، فرفض السوريون المحاولة وأحبطوها… وإنه أخيراً عاد يجهر بموقفه الأصلي من خلال التعديل الذي تقدم به من وزارة الداخلية (!!) لبرنامجحزبه، مشيراً إلى أنه سيعمل من أجل جمهورية اتحادية في لبنان.
لقد صمتت الحكومة عن ذلك كله، وكان صمتها مريباً،
ثم أنها تستخدم حتى هذه اللحظة لغة التقارير الأمنية في الحديث عن جرائم تدرك هي، وبالدليل الملموس، أنها ما ارتكبت لإشباع هواية شاذة أو لثأر شخصي على المصلين الصائمين في سيدة النجاة بذوق مكايل.
ويكاد يغيب عن التصريحات الرسمية، وما أكثرها، الوعي بخطورة ذلك المشروع، وبمسؤولية القائلين به، في الداخل والخارج، عما يسمى بحالة “الإحباط المسيحي” أو “الانكفاء المسيحي” أو “المقاطعة المسيحية” للدولة.
إن الحكم لا يدافع عن دولته بما يكفي، بل هو يتخذ موقفاً أقرب إلى رد التهم عنه، بدل أن يكون هو المهاجم والمبادر، في السياسة كما في الأمن، خصوصاً وإن أولئك الذين كانوا يتذرعون باختلال في التوازن، وبالنقص في المشاركة إنما شكلوا الوقود لدعاة المشروع التقسيمي الذي يحمل دفعة إسرائيلية فاقعة في صراحتها.
للمناسبة: لم نسمع رداً على ما قاله بعض قادة الكيان الصهيوني حول أرضنا المحتلة في الجنوب وحول مستقبل المرتزقة من جنود ميليشيا لححد داخل الدولة ومؤسساتها.
وأخيراً: فإن سمير جعجع وأمثاله من أصحاب المشروع التقسيمي قد عاشوا طويلاً واحتفظوا “بزعاماتهم” نتيجة القصور في معالجة مسألة التهجير،
وإذا كانت الحكومة (وقبلها مجلس النواب) بل الحكم بمجمله جاداً في إنهاء المشروع التقسيمي فإن المدخل الشرعي والطبيعي والوطني هو التعجيل في إعادة المهجرين إلى ديارهم،
والمال في خدمة الوطن والمواطن، أو هكذا يفترض أن يكون،
أما في لبنان فنخشى أن يكون الوطن والمواطن في خدمة المال وأصحاب المال.

Exit mobile version