طلال سلمان

على الطريق إسرائيل في قصرنبا: كل مواطن أسير!

يستشعر أهالي قصرنبا الكثير من الحرج والأسى والغضاضة وهم يسمعون اسم قريتهم الوادعة يتردد، لأول مرة، في الإذاعات ونشرات أخبار التلفزة وعلى أفواه الخلق، في ما يشبه “المهرجان” أو “الكرنفال” الإعلامي السمج.
لقد تأخر الاعتراف بهم حتى تحوّل مصدر الفخر الشعبي إلى فضيحة رسمية: بات المقاوم عبئاً على حاكمه الخارج من الحرب قبل الأوان، بينما الإسرائيلي ما يزال يخوض غمارها وكأنها قدره إلى الأبد.
ومما يثقل على صدور أبناء قصرنبا ويزيد من آلامهم أن رجال الكوماندوس الإسرائيلي قد عرفوا الطريق إلى قريتهم الصغيرة التي تهجع في السفح الشرقي لسلسلة جبال لبنان الغربية، قبل دولتهم بمسؤوليها الكبار ومؤسساتها الفخمة بدءاً بالترويكا وانتهاء بوزراء حكومة التضامن المفروض بالأمر!
لا تنتج قصرنبا إلا الرجال، ولأن رجالها يتجنبون ذل السؤال فهم خيرة الفلاحين في المنطقة: يعوّضون بعرق الجباه السمر والزنود نقص المياه، فينتجون أفضل العنب والكرز، ثم يعطيهم ورد السياج ماءه موسماً إضافياً.
ومصطفى الديراني، الحاج، أبو علي، واحد منهم، وكان يمكن أن يكون الآن أحد الكرامين ولولا أنه ذهب إلى الجيش، قبل سنين، باعتبارها الوظيفة المتاحة أحياناً أمام أبناء الفقراء، إذا سمع التوازن الطائفي والمذهبي.
نتيجة لانكسار ذلك التوازن حين تسبب الحاكم – الفرد – الفئة في أن يصطدم الجيش بجمهوره، وجد مصطفى الديراني نفسه في الشارع مخع المنتفضين على نظام القهر والامتياز والحرب الأهلية.
ومن “الانتفاضة” التي سرعان ما أخلت الشارع لتنخرط في السلطة، ذهب “الرقيب” مصطفى الديراني إلى “المقاومة المؤمنة” ومن الأرض المقدسة التي حمل من أجلها السلاح ججاءه لقبه – الرتبة : الحاج أبو علي الديراني.
ليس في قصرنبا ما يذكر بالدولة إلا الولاء المبهم للعلم والبزة الرسمية.
“الحسينية” هي المقصد والملتقى ومركز قرية الكرامين والكرازين وصانعي ماء الورد.
لكن “الكروسة”، أي الطريق العام الذي يجيء من بيروت عبر زحلة ويرتفع في أبلح ليربط “الغربي” بعاصمة بعلبك، هي التي شدت الفلاحين خارج الإطار “التاريخي” للقرية التي تحمل تلالها ندوباً رومانية، والتي يحمل اسمها وشماً إسلامياً، وتحمل كبرى الأسر فيها دمغة صليبية.
أخذت القرية تتدرج نزولاً نحو الطريق العام بوصفه مصدر رزق، لاسيما بعدما أعادت الحرب الأهلية أبناء أحزمة البؤس الذين كانوا تكدسوا حول بيروت إلى قراهم وأجبرتهم أن يبتكروا أسباب حياتهم موضعياً.
وفي الأحياء “الجديدة”، خارج حضن القرية وبعيداً عن الحسينية، ابتنى الحاج مصطفى وأشقاؤه مع أبيهم بيتاً جديداً، بالباطون وتوزعوه شققاً.
إلى هذا البيت قليل الجيران والمزروع ضمن مدرجات الكروم التي تصعد نحو الغروب في اتجاه بئر هاشم وتتقاطع، في الأعالي، مع أراضي تمنين، ثم مع خراج نيحا والفرزل وصولاً إلى قاع الريم وضهور زحلة، جاء الكوماندوس الإسرائيلي قبيل الفجر، مسابقاً عيد الأضحى، ليقتلع الحاج مصطفى الديراني من بين زوجته وأطفاله الخمسة، صبيحة يوم السبت الماضي.
تجول في المنطقة من حيث تفترض أنهم قد جاءوا فتضج في ذهنك التساؤلات حتى تكاد تنفجر تحت ضغط المقارنات القاتلة:
لا يمكن أن يجيئوا إلا بعد طول دراسة وتدريب… أين كان الآخرون طوال هذه الفترة؟!

لا يمكن أن يصلوا إلا ومعهم دليل أو أدلاء “محليون”، فمن هم، ومن هو المعني بكشفهم ومطاردتهم وتوقيفهم ومحاكمتهم بتهمة التعامل مع العدو؟!
ما كان يمكن أن تنجح عمليتهم الجريئة لولا اطمئنانهم إلى الغفلة المطلقة في جانبنا، إن على المستوى الرسمي، أو على المستوى الشعبي، وحتى على مستوى صاحب العلاقة.. فممن المسؤول، ومن يحاسب من والكل مقصر ومدان سلفاً كائناً ما كان عذره.
والعيد، في هذه الحالة، سبب إضافي للتنبه وليس عذراً لمزيد من الغفلة.
ولم يكن ذهاب “أبو علي مصطفى” إلى قصرنبا عيداً بذاته، لكن اختطافه بهذه السهولة القاتلة أعطى إسرائيل عيداً جديداً… لا تستحقه؟!
طبعاً لايفيد كثيراً أن تسأل عن الرادارات والمضادات ومهمات العسكريين في الثكنات القريبة أو على امتداد الطريق الطويلة بين البحر وبين قصرنبا التي لا تأتيها ريحه.
كما لا يفيد أن تسأل الأهالي عمن جاءهم مواسياً أو معزياً أو مطمئناً على سلامة الباقين، بعد العملية.
تلك أسئلة لا أجوبة لها. لكن ضغط القهر والعجز يفجر الدموع في مآقي الوالد الكهل: “-قالوا لنا صار عندنا دولة وصدقنا… ضيعناك يا أبا علي!!”.
عند مدخل البيت بعض النسوة يتكأكأن على الأحزان القديمة ويتعزين باستذكار “مصائب أهل البيت”. مضنية هي التشابيه والهرب إلى القوالب الجاهزة في ما أهمله التاريخ. لا ضرورة للتفسير أو للمحاسبة. لكل حادث سابقة تخفف من دلالاته وضرورة كشف أسبابه ومحاسبة المسؤول عن وقوعه. وخيمة الله واسعة مثل رحمته.
في المنزل، وعلى الشرفات مجاميع من الرجال معظمهم ملتح، وفي الأيادي سبحات قتل الوقت بلا ألم. والكاميرات تصور لمحطات تلفزيون لم تعد تبث نشرات الأخبار. كأنما الخرس شرط إضافي لنجاح عملية الكوماندوس الإسرائيلي. وفي النشرة الرسمية يجيء خبر الاختطاف، حسب البروتوكول، بعد طمأنة الجمهور إلى مواقع الرؤساء وأين بمضون العيد. واسم القرية الصعب لا يقرأ صحيحاً، تماماً كسائر الأخبار المحلية والعربية و”الإقليمية” وهي الأهم!
العجز أقصر الطرق إلى التواطؤ.
وهكذا بعد اللوم الذي لا بد منه، ولو محدوداً ومرفقاً بالإشارات المعهودة مصحوبة بدوران العيون في محاجرها تنبيهاً وتحذيراً، يتركز الكلام على وحشية إسرائيل وعلى خرقها للقانون الدولي، مع إشارات واضحة إلى ضلوع بعض الأطراف المحلية معها وتقديمها بعض أسباب الدعم اللوجستي.
لا مجال لبراءة طرف إلا بتبرئة الجميع: الدول والمنظمات والأشخاص.
وتقيّد الدعوى، مجدداً، ضد مجهول، أي ضد الجميع… وتدور القهوة المرة، وتتزايد الوشوشات الجانبية المنبهة إلى ضرورة الالتزام بالرواية الرسمية: ولكل روايته الرسمية التي لا يجوز الخروج عن نصها.
أبشع من الخطف الإسرائيلي أن مصطفى الديراني ظهر وكأنه “لطيم” ، لا هوية له ولا دولة، ولا أحد يستشعر مسؤولية خاصة حياله أو حيال أسرته (ولا نقول قضيته، فتلك مسألة أخرى)…
لكان المسؤولين جميعاً يريدون التنصل من عبء المقاومة والمقاومين.
ولكأن المعنيين يأخذون بالرواية الإسرائيلية التي تعتبر مصطفى الديراني مسؤولاً عن “اختطاف الطيار الإسرائيلي دون أراد الذي فقد في لبنان قبل بضع سنوات”؟!
كأنما دون أراد جاء لبنان للسياحة، أو كأنه خرج من منزله ولم يعد، ولم يكن في طائرة قاذفة ينفذ غارة على قرى وأحياء ومخيمات فيقتل بصواريخه نساء وأطفالاً وشيوخاً، عن سابق قصد وتصميم… وأنه قد “أسر” بعد إسقاط طائرته فوق الأرض اللبنانية التي كان يحرقها بمن فيها من أهلها!.. ولأن الدولة لم تكن هناك، فقد أخذه من أسقطه!!
لعل ذلك هو السبب في حرج دولتنا: طالما أن “الحرب” هي بين إسرائيل وبين المقاومة التي أسرت الطيار المفقود، فلماذا تدخل الآن في حلقتها الأخيرة مطالبة باستعادة مصطفى الديراني، ولو عبر الأصدقاء الأميركيين؟!
لعل الدولة تقول: حسناً، هو من اختار هذه الطريق، وهذه مسؤوليته، فماذا تراني أفعل الآن؟! لم يسألني حين بدأ، فما هي مسؤوليتي عن النهاية؟!
والجواب منطقي تماماً في بلاد لا علاقة فيها بين الدول وشعبها.
وشكراً للدولة أنها لم تحاكم مصطفى الديراني على “فراره من الجيش في زمن الحرب”، ولا على “تعكير العلاقات مع دول مجاورة”.
… ويكفي ألسنة السوء تعكيراً على رجال الدولة الكبار وصفو بالهم وإجازاتهم في هذا العيد السعيد.
أيها الناس، إفهموا وعوا: لا أمن ولا أمان في هذا العصر الإسرائيلي لإي مواطن عربي، إن إسرائيل تتوغل في الحرب حتى القضاء على آخر مقاتل عربي، وحيثما كان… تماماً كما لا أمن ولا أمان لأية دولة عربية برغم “مفاوضات السلام” تحت الرعاية الأميركية، كذلك لن ينفع العرب الخروج من الحرب قبل إسرائيل أو بالشروط الإسرائيلية.
فالحساب بمفعول رجعي وسيظل مفتوحاً ما بقيت إسرائيل في الحرب والعرب خارجها.
هكذا تقول قصرنبا، قرية الفلاحين والكروم والكرز وماء الورد ومصطفى الديراني الأسير!
حرب اليمنين: من صدام إلى الصومال
تجيء الأخبار كأنما من كوكب آخر أو عن كوكب آخر، فلا تجد عند متلقيها حتى القدر الضروري من الدهشة أو المفاجأة أو فضول المتابعة.
حتى اندثار بلد عربي عريق وغرقه في أتون حرب لا تنتهي لم يعد يهز المواطن المثقل بهموم حربه هو في قطره هو، وكل الحروب مفتوحة على المجهول، لكن الضحية دائماً هي الإنسان العربي وأحلامه في غده.
تتساقط المدن اليمنية جثثاً محروقة تتناهشها مدافع قبائل السلطتين في الشمال والجنوب، وتتبادل الدبابات المواقع وهي تدمر المنازل والأشجار القليلة إلى حد الندرة والسيارات (عسكرية ومدنية) والمنشآت المعدودة التي أقامتها “الثورتان” في زمن مضى وأيام إن كانت الإرادة توكيد عودة اليمن إلى الحياة وإلى العصر…
العرب يتفرجون على “الإخوة اليمنيين” يأكل بعضهم لحم البعض الآخر نيئاً، ويوجهون بطاريات صواريخهم إلى المستقبل يرجمونه بقاذفات النار حتى تندثر معالمه.
بين حين وآخر، وخشية من أن تتوقف الحرب لسبب ما، يوجه بعض السلاطين نصيحة أو دعوة لوقف الاقتتال، مع اتهام ضمني لهذا الطرف أو ذاك بالمسؤولية عنها، فيكون الرد تصعيداً عسكرياً غير محدود.
… ومملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض تمارس لعبتها المفضلة: مع الضعيف حتى لا يستسلم، ومع الأعرق في انفصاليته حتى لا يذهب إلى الوحدة، ومع القبيلة، حتى لا تقوم الدولة!
أطرف ما جاء من أخبار الحزن اليمني اثنان:
الأول – أن صدام حسين قد أبرق إلى خدينه علي عبد الله صالح يهنئه بعيد الوحدة، ويحرضه أن يستمر في حملته على الجنوب حتى يعيد الفرع إلى الأهل، مكرراً تجربته الناجحة في الكويت (وبين التجربتين الكثير من وجوه الشبه، دون أن يعني ذلك براءة الجنوبيين الذين لا يقلون في هذه الحالة مسؤولية عن الكويتيين في السابقة الأخرى)…
والثاني – إن “جمهورية أرض الصومال الجديدة”، وهي ثمرة انفصال حرام كان بين الكوارث التي انتهت إليها الحرب الأهلية في الصومال، قد أعلنت اعترافها بجمهورية علي سالم البيض في جنوب اليمن، التي أعادت الحرب الجديدة بعثها.
بعد اليمن، صارالانفصال الواقعي مطلباً شعبياً شبه مقدس: هو الأمان وطريق التقدم!
صارت الوحدة هي الحرب وهي الدم والموت والخراب والسقوط في شبكة المصالح الدولية.
استعادة القبيلة اعتبارها كمؤسسة أرقى من الحزب ومن الدولة، وظهر المشايخ أكثر ديموقراطية وأقل دكتاتورية من عسكر الحكم ومن حكم الحزب الواحد.
من يعيد الاعتبار إلى أمة لا مكان فيها للمواطن؟!
وإلى متى تظل الدبابة أهم من الاستفتاءات الشعبية والانتخابات و”البيعة” الجماهيرية المطلقة؟!

Exit mobile version