طلال سلمان

على الطريق أي حوار لأي مستقبل؟

الحكم، عربياً، كرسي بمقعد واحد: لا مجال للشراكة أو التقاسم أو الإنابة أو قبول الاعتراض، فالمعترض متآمر يريد خلع القائم بالأمر ليجلس “فوق” وحده.
بين الحاكم والمعارض السيف والدم، والعرش للأقوى!
هكذا هو الأمر في الجزائر وفي مصر وفي “الشبر” الذي جلت عنه إسرائيل من أرض فلسطين، وفي جهات أخرى عديدة من الوطن العربي،
وأمس، على سبيل المثال، تم إعدام “وجبة” أخرى من المعارضين في مصر تحت لافتة “الأصولية الإسلامية”، فارتفع عدد المقطوعة رؤوسهم بالخمسة الجدد إلى واحد وأربعين فتى من شباب مصر القائل بحقه في تغيير وضع يراه فاسداً، هذا عدا المئات من الضحايا الذين تساقطوا عبر الصراع الدموي المفتوح بين السلطة ومعارضيها على امتداد أرض الكنانة في السنوات القليلة الماضية.
وفي الجزائر يستمر نهر الدم متدفقاً غزيراً يجرف في طريقه من صُنفوا “إسلاميين” وعسكر النظام ممن صنفهم الإسلاميون “كفرة”، ومعهم مجموعات من الأجانب (والأوروبيين بالذات) الذين حملتهم المصالح أو الأقدار على الجزائر.
وفي “الشبر” الذي “تحرّرت” منه إسرائيل في فلسطين يحتدم الجدل بين السلطة المحروسة بحراب الاحتلال والحارسة لحدوده ومصالحه وبين معارضيها الوطنيين والإسلاميين، مهدداً بالتفجر دموياً في أية لحظة،
لا حاكم يقبل أو يسعى إلى محاورة “خصومه”،
بل إن كل حاكم يجمد “خصوماته” مع العالم كله لكي يتفرغ لمنازلة معارضيه وشطبهم من المعادلة السياسية إما باستعادتهم إلى بيت الطاعة مدجنين وعديمي القيمة والمعنى وإما بالقضاء عليهم جسدياً.
أكثر من هذا: إن معظم الحكام يقبلون “نصائع” واشنطن وينفذون مضمونها بلا نقاش، إلا حين يتصل الأمر بمعارضيهم “الوطنيين”،
وهذا “الحوار” الذي “نظمه” الحكم في الجزائر ودعا إليه من لا يقدرون على رفضه ولا هو ينتفع كثيراً بحضورهم، كان محكوماً بالفشل حتى من قبل أن يعقد لأن “المحاور” الوحيد المعني كان غائباً بل مستثنى سلفاً وممنوعاً من المشاركة.
… برغم أن “الحوار” الذي طلبت واشنطن إلى النظام أن يعقده هو الحوار مع “الإسلاميين” تحديداً، ومعهم أساساً وفقط، وهي كانت سبقته إليه فعلاً فاستضافت بعض قيادات جبهة الإنقاذ الإسلامية وأدارت معها حواراً مستفيضاً وتفصيلياً وهيأت “الجو” لاستكماله حيث يجب وعلى موضوعه الأصلي: في الجزائر وحول طبيعة النظام فيها ودور “الإسلاميين” فيه مستقبلاً.
ومن قبل كان نظام حسني مبارك قد استجاب للنصيحة الأيمركية، شكلاً، ولكنه استبعد عن الحوار الطرف الوحيد المعني أي “الإسلاميين”، برغم أن واشنطن كانت ولا تزال تستضيف بعض أبرز قيادات هذا التياروتحاور وتناقش معهم تفاصيل التفاصيل حول مستقبل مصر والتيار الإسلامي، في مختلف أرجاء العالم الإسلامي.
وفي غزة حاور عرفات ويحاور “أعداءه” السابقين، الإسرائيليين، حتى باتت اللقاءات مضجرة وشكلية، ولكنه يرفض محاورة “رفاق السلاح” القدامى بل يرفض أن يعطيهم أي دور، بينما تتوجه إليهم إسرائيل وتناديهم وتعترف بهم كقوى مؤثرة، لإضعافه هو في الداخل بعدما استقوت به عليهم في الداخل والخارج.
كل نظام يخترع “معارضته” وينصبها بديلاً عن المعارضة الأصلية والأصيلة.
فإذا فرضت عليه واشنطن محاورة معارضيه دعا بعض بواقي الأحزاب والتيارات القديمة، المتهالكة والمعدومة التأثير في الشارع، فاصطنع لها حجماً لا هي لا تستحقه ولا هو يستطيع أن يمنحها إياه أو يفيد منه، ولو أنه كان لضربها واستأصلها، أي أنه “يحيي العظام وهي رميم” ويجلسها في مقابلة فيقول ولا تملك أن تقول، ثم يقرر ولا تملك أن ترفض أو تتحفظ، وينفض اللقاء وقد تحولت المشكلة السياسية الداخلية إلى أزمة وطنية متفجرة.
كيف يمكن أن يحل الشيوعي المتقاعد والمعزول شعبياً في الجزائر، مثلاً، أو في مصر محل من يقول بأن الإسلام هو الحل، وبأن لا حكم إلا حكم الكتاب؟!
ومن أين “للقوى” التي فقدت السلطة لأنها بعيدة عن الشعب أو غريبة عن همومه وطموحاته أن تحل مشكلة النظام مع القوى الجديدة و”المتطرفة” القائلة بالتغيير الجذري والشامل، وهي تخاف قوى التغيير أكثر مما تخاف النظام، ثم أنها “حليفته” بالضرورة ضدها لأنها ستزول نهائياً معه.
إن قوى “الحوار النظامي” هي صور باهتة وجلود نمور تنفع للزينة وهي لافتات لأحزاب بائدة وعاجزة وغريبة عن العصر ومحكومة بأحقادها لأنها صاحبة تجربة فاشلة في المعارضة كما في الحكم.. وهي قد تعبت حتى نالت عفو النظام ، وهي لا تريد أن تخسره لأنها تعي أن لا مكان لها في النظام الجديد الآتي على أنقاض القائمين بالأمر جميعاً، السلف والخلف.
مَن يحاور جثثاً، ومَن يطلب منهجاً للحياة الجديدة من أموات؟!
لذلك سيستمر نهر الدم في التدفق هادراً بصوت “الحوار” الوحيد المتاح، في انتظار أمر العمليات الجديد من واشنطن التي تكسب مزيداً من الضمانات المستقبلية لمصالحها في كل أرض،
ومع واشنطن دائماً وطبيعة الحال المحاور الوحيد الذي لا ترفضه تلك الأنظمة: إسرائيل.

Exit mobile version