طلال سلمان

على الطريق أين الرئيس ليمنع انتحار الدولة؟!

لكأننا نشهد حالة انتحار دولة!!
ففي ضوء ما جرى أمس الأول في الجبل وفي بيروت يوم أمس صار مشروعاً أن يطرح السؤال الكبير : من يتآمر على أمين الجميل وعلى الجيش وعلى الشرعية وعلى الدولة ومشروع الوطن في لبنان؟!
من يغري الحكم بالخطأ ويحرضه عليه، ثم يتركه يجني الثمار المرة ويستنفد رصيده لدى الناس، وقد كان استثنائياً ويزيد على الكفاية والاحتياج؟!
من يحرض الشرعية ويدفعها دفعاً إلى الاصطدام بجمهورها ومواجهته بالسلاح عند أبسط أشكال؟!
من له مصلحة بأن تنسف الدولة بيديها مشروع بيروت الكبرى، وهو الأساس الذي اختارته وسهرت من أجل إقامته كمدخل لإعادة توحيد البلاد والعباد؟!
ومن له غرض في توريط الجيش واستعدائه على الناس، بسطاء الناس، وهم أهله وخزانه البشري واحتياىطيه وبحره، ومن له القدرة على خلق المناخ الملائم لمثل هذا التوريط، ومن ثم على الإفادة من النتائج المدمرة وتوظيفها لخدمة مشروعه الخاص المتناقض بالضرورة مع مشروع الدولة القوية لوطن موحد؟!
إن ما جرى أمس ويجري اليوم ويراد له أن يجري غداً ليس بفعل فاعل مجهول، وليس من نتاج “الأفكار المستوردة”، بل إنه يحمل بصمات أصحاب مشروع الدولة الأخرى، وهم لبنانيون، بل هو الذين يعتبرون أنفسهم “اللبنانيين اللبنانيين” ويسقطون عن الآخرين نعمة المواطنة،
فبين عاليه ووادي أبو جميل كانت “المؤامرة” تدب على قدمين وتنفث عبر الأثير ألسنة اللهب في مختلف الأنحاء محرضة الأخ على أخيه ، مهولة على الناس بالجيش وعلى الجيش بالناس وعلى الجميع بحكاية الانسحاب الإسرائيلي “المباغت”، وبعجز الباب العالي الأميركي عن ضبط المشاغب مناحم بيغن!
أكثر من ذلك: لقد استكبرت جهات وقوى سياسية نافذة وذات صلة حميمة بالحكم أن تشهد بيروت “صلاة الصمود” فجر عيد الفجر، وأن ينتظم الأولوف صفوفاً بالجلاليب البيضاء في الملعب البلدي ليؤكدوا حقهم في والوطن وحرصهم عليه، فانطلقت تستعدي الدولة على … شعبها، وتحرضها ضد مفتي الجمهورية الذي تجرأ فأطلق صرخة التنبيه والتحذير من خطورة ما يجري وما يراد له أن يجري (مما جرى فعلاً بعد ثلاثة أيام لا أكثر).
ولعل هذه الجهات جزعت من هتاف “خيبر خيبر يا يهود” الذي أطلقه بعض المصلين، فاندفعت تغري الدولة بضرورة صدم الموجة قبل أن تتعاظم، وترتيب هجوم مضاد على هؤلاء “المتطرفين”، حماية لـ “الاتفاق” مع المحتل الإسرائيلي، وحماية لمصداقية الحليف والشريك والضامن ومعقد الرجاء الأميركي!
على إن ذلك كله لا يكفي لتفسير “لغز” كمثل الذي نشهد فصوله المأساوية هذه الأيام والذي يمكن اختصاره بالقول إن الدولة تنتحر، وتنتحر بحماسة منقطعة النظير! وإن الدولة تطارد أنصارها بالرصاص ومذكرات التوقيف والاعتقال الجماعي بغير مبررات مقنعة، وأحياناً بغير مبرر على الاطلاق!
لقد حولت التصرفات الرعناء والمتسرعة لبعض الأجهزة أو بعض مراكز السلطة، والناتجة أصلاً عن تحريض رخيص ومكشوف، بيروت الكبرى من واحة أمل بلبنان موحد إلى جزيرة معزولة مسيجة بسلاح الأخوة الأعداء،
بل إن الجزيرة نفسها تكاد تبدو في صورة أرخبيل تفصل بين أطرافه المدافع (ولو صامتة) والبنادق والأحقاد الموقوتة!
هذا بينما العدو الحقيقي على بعد أمتار عن الجميع، عند مثلث خلدة، ومن حول القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، يوغل في شبك العلاقات مع الطوائف والمناطق والهيئات والمنظمات والأفراد، ويستفرد ببؤر المقاومة في الجنوب وبعض الجبل والبقاع فيحاول محاصرتها وعزلها والقضاء عليها، ببشرها وشجرها وكل ما يقيم الأود ويحفظ للحياة أسبابها،
أليس في ما يجري ما يفوق التصور، وما يتجاوز المعقول والمقبول؟!
أليس حراماً أن يوأد مشروع الدولة، بجيشها ومؤسساتها الأخرى، وهي وليدة بعد؟!
أليس إجراماً أن يشغل الجيش ويستغل كطرف في حرب أهلية جديدة بينما مشروع الوطن ما يزال يتهدده خطر الفناء بسبب نتائج الحروب السابقة التي لما تتوقف؟!
على إن بالإمكان بعد إيقاف المأساة والحؤول دون اكتمالها بما يذهب بالبلاد وشعبها،
بالإمكان أن تتنبه الدولة إلى خطورة ما يدبر لها ولشعبها ولجيشها وكل ما يرمز إلى وجودها وقابليتها للحياة، فتتصدى للمحرضين والمفسدين والمنتفعين بزوالها، وقبلهم جميعاً لمصدر الخطر الحقيقي: العدو الإسرائيلي.
وبتحديد أدق: بإمكان الرئيس أمين الجميل، شخصياً، أن ينهي هذا الوضع الشاذ، وأن يوقف حالة الانتحار الجماعية التي تذكر بمذبحة غويانا، حينما انتحرت (العام 1978) طائفة بأكملها وراء قائدها جيم جونز.
وبإمكانه أن ينهيه هنا، في بيروت، وليس هناك في واشنطن، فالحل يبدأ هنا، ويكون هنا أو لا يكون.
ومدخل الحل الحوار، والحوار في صلب الموضوع السياسي،
وبقدر ما يستمر تعطل أو تعطيل هذا الحوار سيستمر صوت الرصاص مدوياً، ثم يكون الرصساص ذريعة لاستمرار تعطيل الحوار، بل وللقول باستحالته.
و”الاستحالة” المزعومة بداية الطريق إلى النهاية المفجعة التي نشهد اليوم والتي نتمنى أن تتوقف فوراً، وهي: انتحار الدولة.
فليتوقف الرصاص،
وليسحب الجيش من مواجهة أهله،
ولتكن الخطوة الحاسمة والمرجوة بفتح باب الحوار السياسي الجاد والمتعب والشاق والقاسي إلى حد الإيلام.
وإلا فسنكون، مرة أخرى، أمام 1975 جديدة،
وهذا بالتأكيد ما لا يريده أمين الجميل ولا الشعب ولا الجيش الذي يريده الناس أن يدخر ليكون ما يجب أن يكونه: العمود الفقري للدولة العتيدة.
وليس في عاليه ولا في وادي أبو جميل ولا في الضاحية الجنوبية يكون اعداد الجيش لدوره المرجو والضروري والمطلوب… بإجماع آراء اللبنانيين!

Exit mobile version