طلال سلمان

على الطريق أية مواجهة… وأية واقعية؟!

اختار الرئيس الياس الهراوي، وبشجاعة تستحق التنويه، أقصر طريق إلى بعبدا وقصر الحكم فيها: عبر خط التماس مع الاحتلال الإسرائيلي في منطقة تواصل البقاع الغربي مع الجنوب الأسير.
والدلالات المعنوية والسياسية لهذه “الزيارة” التاريخية أعمق من أن تموه بنسبتها إلى الأغراض الشخصية أو المصالح الانتخابية أو البحث عن دور للرئيس الأول الذي يظهره صراع الأقوياء، بالمال أو بالنفوذ، وكأنه في موقع متأخر وإن قدمته رمزية موقعه.
فنادراً ما أتيح لأهالي ما بعد قب الياس، وما يجاور مشغره وقراها انتهاء بميدون، أن “يتفرجوا” على الدولة ورجالها، فكيف برئيس الجمهورية الذي وإن أضفت “بقاعيته” الطابع العائلي على الزيارة، إلا أنها مهمة بمفاعيلها بالنسبة لتلك المنطقة المهجرة والمهجورة والتي كان يبدو وكأنها تركت للريح وتصاريف القدر المقدر!
وغالباً ما كانت التهديدات الإسرائيلية تحبس “المسؤولين” في بيوتهم، لا يخرجون منها إلا بعد انتهاء “الغارة” أو “العملية العسكرية” لكي يتصوروا مع الضحايا والأنقاض!َ
وبالتأكيد فإن رئيس الجمهورية كان يسمع، وربما بالصوت الحي، مقدمات البلاغات العسكرية الإسرائيلية، التي توحي تصريحات قيادات الاحتلال وكأنها قد دفعت إلى الإذاعة، في انتظار إشارة الهجوم بالطلقة الأولى “لعملية باتت مؤكدة”.
ولأن اللبنانيين فقدوا عادة الاطمئنان إلى الدعوة الأميركية للتهدئة وضبط الأعصاب، وباتوا يفهمون طبيعة عدوهم وطبيعة ردود فعله، فهم يعيشون – بغير هلع – متوقعين ضربة جديدة، وإن كانوا لا يعرفون أين وكيف، ولكنهم يقدّرون – بالخبرة – إنها في مكان آخر قد يكون بعيداً كل البعد عن مواقع الحشود والتعزيزات الجديدة.
ولأن اللبنانيين تعودوا أن توجه الرسلائل الإسرائيلية عبرهم، بإحراق قراهم ومزروعاتهم ونسف بيوتهم والقتل البارد لنسائهم وأطفالهم، فهم يعرفون – سلفاً – إن إسرائيل ستدعي بضربتها المتوقة إنها إنما ترد على سوريا التي ترعى المقاومة في لبنان وتعتمدها وتسلم بشرعيتها وتدعو العرب – والعالم – إلى التسليم بهذه الشرعية طالما استمر الاحتلال.
على أن اللبنانيين يدركون، بالمقابل، أن الاعتداء الإسرائيلي بالنار هو الوجه الآخر للتعنت الإسرائيلي على طاولة المفاوضات حيث ما يزال العدو يرفض الاعتراف بأنه قوة احتلال في الجنوب والبقاع الغربي.
وبغض النظر عن الذرائع والمماحكات فصغبين لا تختلف في العين الإسرائيلية عن اللاذقية، كما أن ميدون لا تختلف عن الناعمة. والمقاومة الإسلامية لا تختلف عن المقاومة الوطنية وهذه لا تختلف عن آخر جيوب المقاومة الفلسطينية طالما أن الكل يوجه بنادقه إلى الاحتلال الإسرائيلي.
لذا تغدو منطقية تماماً حركة رئيس الجمهورية: أمس الأول مع الرئيس الأسد في اللاذقية، وأمس في صغبين في الموقع الأكثر تقدماً في اعتراض العدو الإسرائيلي ومحاولة إسقاط عباءة الدولة (وشرعيتها) على مقاومة الاحتلال.
بعيداً عن زيارة رئيس الجمهورية لجنوب البقاع الغربي ودلالاتها، يبدو واضحاً أن إسرائيل ستحاول إحداث تغيير ما في الواقع القائم وبوسائلها العسكرية طبعاً، بحيث يمكنها الادعاء من بعد أنها أسهمت في إخراج المفاوضات من الطريق المسدود.
ستحاول بالمدفع أن تخلق واقعاً “سياسياً” جديداً يمكنها أن تسثمرة في الجولات المقبلة من المفاوضات الثنائية، متكئة على “التفهم الأميركي” الدائم لدواعي الأمن الإسرائيلي،
وهي ستتطلع، إذا ما ضربت في لبنانن إلى نتائج ليس فيه فقط بل في المواقف العربية الأخرى، وبالتحديد السورية والفلسطينية،
إنها تضرب الجميع في لبنان وعبره، وتستدر النتائج لاسيما عبر الارتباك الفلسطيني والبلبلة التي باتت تعبر عن نفسها علناً في تناقض القيادات واختلافها على الأولويات كما على التكتيك.
في هذا السياق يغدو ضرورياً التعامل بمزيد من الجدية والرصانة مع التحرك المصري الراهن والذي امتد ليشمل لبنان مباشرة، عبر زيارة وزير خارجية مصر عمرو موسى.
فالمنطق المصري مختلف تماماً عن “المنطق العربي” الطبيعي والذي كان هو المعتمد إلى ما قبل سنوات قليلة.
إنه الاختلال بين البديهيات وبين الوقائع، أو بين الإرادة وبين السياسة العملية.
وقد لا تسلم بوجاهة هذا المنطق، وقد تفجعك برودته في الحديث عن “مقدسات”، وقد تصدمك غلبة “الاحتراف” على “الاجتهاد” فيه، لكنك لا تملك ترف رفضته بالمطلق وتسفيهه بالبساطة التي كنت تمارسها حتى… “عاصفة الصحراء”!
فمن الصعب التغلب على عمرو موسى في النقاش طالما كانت التسوية مع العدو الإسرائيلي هي الموضوع، وطالما أن المفاوضات المباشرة هي السلاح الوحيد المتاح.
أفليس الآخرون في ظريقهم إلى حيث هو الآن، على “الضفة الأخرى”، بما يمكنه من التصرف معهم بمنطق “نحن السابقون وأنتم اللاحقون”، بل والتباهي (الضمني) بأنه استطاع أن ينسق أو أن يسترجع من حقوقه أكثر مما هو معروض عليهم أو يحتمل أن يستعيدوا من حقوقهم؟!
واثق من نفسه، متمكن من موضوعه لاسيما وإنه لا يعاني من “عقدة كامب ديفيد” بل لا يتورع عن الاتكاء عليه وهو يقارع أصحاب “المعلقات” من تراث ما قبل 5 حزيران 1967، مبيناً فضائل دبلوماسية المفاوضات والاستعمال الناجح لرصيد العلاقات الدولية في تحقيق نتائج عملية تعجز عن تحقيق مثلها المقاومة المسلحة.
“تسألونني عن مصر؟! إن مصر لم تغب أبداً عن العرب ولم تتخل عن التزاماتها، وها نحن هنا في لبنان ومع لبنان الذي يسعدني أن أزوره لتأكيد وقوفنا معه وتكاتفنا مع حقه في تحرير أرضه وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي بتنفيذ القرارين 425 و426”.
لا ادعاءات ولا كلمات كبيرة ولا تعابير خارج الإطار “التقني”، والحرفة تغلب السياسة: فهو دبلوماسي محترف على لغته الواقعية جداً “الفنيات” والموجبات والعقود… لاسيما وإنه خريج “الأمم المتحدة” حيث التخصص في التدقيق والتمييز بين تعبير أو مفهوم أو حتى كلمة وأخرى حرصاً على المعنى المحدد والمراد المطلوب.
النوايا حسنة، والكلام الترشيدي المستوحى من التجربة الخاصة (والنجاحة الآن؟!) بحر بلا ضفاف، وبالإمكان التحدث بلهجة اللائم وليس فقط بلهجة الناقد: “ألم يكن أفضل للفلسطينيين أن يقبلوا مشروع الحكم الذاتي كما أتى به اتفاق كامب ديفيد من أن يحاولوا الآن وضمن ظروف أبأس، ثم من أن يضطروا على قبول ما هو أقل من ذاك الذي كان معروضاً”؟!
لا خروج على النص، ولا اجتهاد: كامب ديفيد هي السقف الذي يصعب أن يطاله أي من المفاوضين العرب الآخرين، وكل ما يمكن الوصول إليه هو أدنى بكثير، خصوصاً مع انتفاء البديل الآخر، الحرب…
لا أثر للندم أو لمحاسبة الذات، فالأسهل دائماً محاسبة الآخرين، والتبدل المذهل الذي غير العالم حجة إضافية تجب ما قبلها وتجعل “المنطق الثوري” من الذكريات، والبعض يكاد يجعله في مرتبة “الكابوس”…
لكن منطق عمرو موسى على تماسكه لا يفيد كثيراً في صد الهجمات الإسرائيلية، ولا في تبديل المطامع التوسعية، ولا في الإصرار على تبديل الواقع لكي تصبح المفاوضات مجرد إطار دولي لتقنين الوقائع الديموغرافية الجغرافية والسياسية الجديدة.
ولو كانت مصر حاضرة بحجمها وقدراتها (الأصلية) فعلاً لكان القلق العربي العام، والقلق اللبناني الخاص، محدوداً،
أما اليوم فإن أبرز دلالات هذا الهجوم الإسرائيلي الجديد الذي بدأ بالإذاعات قبل أن يبدأ بالمدافع أنه يعني في جملة ما يعنيه أن “الحضور المصري” أقل مما هو مطلوب، وأقل مما هو مرجو، وأقل فاعلية مما يتصوره عمرو موسى.
فمساحة “الحضور” الإسرائيلي بالعدوان تغطي في ما تغطيه مساحة غياب مصر التي لا يعوضها أي من العرب بل لعلهم يحتاجونها جميعاً وبالقدر ذاته،
ومن خط النار في الجنوب والبقاع الغربي إلى طاولة المفاوضات في واشنطن، سيظل ضرورياً حضور مصر، وحضورها الفعلي وليس الرمزي، من أجل قدر من التوازن يسمح بإنقاذ الحد الأدنى من الحقوق العربية.
ولا بد من مصر وإن طال السفر!

Exit mobile version