طلال سلمان

على الطريق أهل الدولة يهدمون الدولة؟!

بغض النظر عن النوايا والملابسات والأغراض والمصالح الشخصية، فإن الدولة مهددة بالاندثار بفعل التآكل الداخلين حتى من قبل أن تهجم عليها لتتوارثها ميليشيات الطوائف وأطماع المحتل الإسرائيلي.
إن الدولة تبدو الآن في صورة “الرجل المريض”، كما السلطنة العثمانية في آخر أيامها، لا يمنع سقوطها النهائي غير تعذر الاتفاق بين خصوم وجودها على تقاسم ثرواتها وجهاتها وذهبها… أو ما تبقى منه!
… وماذا ينفع اتفاق الطائف في استيلاد الدولة أو استبقائها إذا كان أهل الدولة لا يريدون لها أن تكون؟!
بل لعل اتفاق الطائف، في بعض وجوهه، يصبح عاملاً إضافياً ومسرّعاً في إسقاط الأطلال الباقية من هيكل الدولة،
ألم يعهد اتفاق الطائف بإعادة بناء الدولة إلى الطرفين المتكاملين في “التآمر” عليها: أهل العهد القديم الذين جعلوها “مزرعة” وأحفادهم من قادة الميليشيات الطائفية – رموز العهد الجديد – المعترضين على صيغة 1943 والمطالب كل منهم بمزرعته فيها باسم الحق الشرعي للطائفة في دولة كل الطوائف؟!
وملفت أن تكون أهم معاول هدم الدولة بعض مؤسساتها “الشرعية” : من “جيشها” الذي صادره ميشال عون ليقاتل به من أجل إسقاط اتفاق الطائف وعودة الدولة إلى وزارة الداخلية في دولة الياس الهراوي الآتية باسم اتفاق الطائف؟!
وحتى لو سلمنا جدلاً بأن الياس الخازن إنما كان يطلب ادمون نعيم إلى بيت الطاعة ومركز الحكم في فندق السمرلاند ليشرب معه فنجان فهوة نخب التفاهم على الصفقة الجديدة لطباعة جوازات السفر “الشرعية”،
وحتى لو افترضنا أن الضابط المكلف أساء التصرف انطلاقاً من حرصه على الانضباط في تنفيذ أوامر رئيسه المباشر،
فإن ما جرى يوم الخامس عشر من آذار 1990 هو من الطبيعة ذاتها لما جرى في 14 آذار 1989،
لقد سقطت الدولة في ذهن وفي اعتبارات أهل الدولة، وبالتحديد منهم أولئك الذين يغالون في حماية هيبتها بحيث يقتلونها… حتى لا يقتلها “أعداؤها”!!
صار قائد الجيش، في نظر نفسه وأتباعه أهم من الدولة،
وصار الوزير، في نظر نفسه وأتباعه، أهم من الدولة،
.. ويمكنك أن تكرج نزولاً إلى أسفل السلم الوظيفي، فالدولة البائسة لا تجد لها حامياً أو معيناً أو نصيراً يغيثها في محنتها.
اللهم إلا بعض مستوطني البديهيات والمبادئ وحراس لقمة الفقير مثل ادمون نعيم.
ويا حارس الحصن الأخير للدولة ونقدها وذهبها: اثبت في موقعك، فأنت المؤتمن الأمين على صمود الناس جميعاً، صمودهم في أرضهم وإصرارهم على دولة تحمي وجودهم فوق أرضهم.
وهؤلاء جميعاً فزعوا أمس، وتصرفوا وكان ما وقع عليك هو اعتداء عليهم في الصميم.
مرة أخرى يضرب “الغرب” محاولة عربية جادة للتقدم في اتجاه العصر،
فإحراق مصنع “الربطة” في الجماهيرية العربية الليبية يماثل ضرب المفاعل النووي العراقي وهدم بيروت كمنارة حضارية واغتيال بعض علماء الذرة العرب، ومن قبل : ضرب الإنجازات الكبرى في مصر تمهيداً لسحبها وهي ضعيفة إلى تلك التبعية،
الطريف أن الغرب يبيعنا المصانع والتجهيزات وبأسعار خرافية، ثم يعمل لتدميرها مباشرة أو بواسطة إسرائيل، فيكون قد قتلنا مرتين.
وإحراق مصنع “الربطة” في الجماهيرية قد أنجز بالأمس، ولكن القرار بإعدامه قد اتخذ في واشنطن في وقت سابق، وبتحريض إسرائيلي علني.
إن القرار بمنع دخول العرب إلى العصر واللحاق بركب التقدم الإنساني له دوي موجع،
ومع ذلك فإن حكام العرب ما زالوا بعيدين عن الاتفاق ولو على الحد الأدنى الذي يضمن سلامة أقطارهم و”رعاياهم”، بشهادة فلسطين ولبنان والسودان المنسي،
لكأنهم يكملون خطة “العدو” فينجزونها بأسرع مما توقع وأراد.
… ثم يحدثونك، هم، عن الزمن الرديء!! وهم في هذا صادقون!
والشكوى لغير الله مذلة!!
سلامة الضمير..
أثبت المواطن العربي، مرة أخرى، غنه سليم بعد، بوجدانه وعواطفه ووعيه وحسه المرهف، برغم كل النكبات والكوارث التي تأتيه من الداخل والخارج.
واثبت هذا المواطن العربي أنه لا ينسى ولا يغمط طليعته حقها،
فعبر تجربة الزميل الكبير أحمد بهاء الدين مع المرض، أحاط المواطنون العرب هذا الكاتب – الضمير بقلوبهم وأدعيتهم واستعدادهم لتقديم كل ما يمكن أن يقدموه لإنقاذ الرجل الذي سخر قلمه وماء عينيه لنصرة قضاياهم العادلة، داخل مصر كما على امتداد الوطن العربي الكبير.
فأحمد بهاء الدينن شفاه الله وأبقاه، مثل على امتداد السنوات الثلاثين الأخيرة أحد أبرز دعاة التقدم والديموقراطية واحترام الإنسان في الارض العربية،
ولقد استطاع هذا الرجل الهادئ أن ينفخ الروح في معاني ومبادئ جليلة تهددتها مباذل الحكام أو مسها بالضرر طغيانهم أو انحرافهم، أو انصراف الجمهور عنها بالخوف على مصدر الرزق أو ما هو أخر،
وفي حالات كثيرة تصدى أحمد بهاء الدين بفروسية لم تعد مألوفة لاجتياحات الإرهاب الفكري مبشراً بالغد الأفضل، وحول قلمه إلى سيف يماني في مواجهة الانفتاحيين والمفرطين بالارض والكرامة،
إن كلمة الحق في وجه السلطان الجائر لا تذهب سدى ولا تضيع إدراج الريح بل هي تبقى في الارض، وتنبت نبتاً مباركاً،
والمواطن البسيط لا يحتاج إلى من يدله على المخلص والنزيه والشريف، بل هو يعرفه بحدسه العفوي، ولعل الرسالة تبلغه فتهزه وتحركه قبل أن تصل إلى أدعياء الثقافة والضائعين أو المضيعين في غياهب التحليلات حول توازنات القوى.
شفى الله أحمد بهاء الدين وأبقاه دليلاً هادياً إلى الصح في عصر طغيان الغلط.

Exit mobile version