طلال سلمان

على الطريق أمين الجميل ورحلة الحرب ماذا قبل القاهرة ماذا بعد عمان؟

بين خريف العام 1983 وبين هذا الخريف الحزين دار الفلك بلبنان دورة كاملة بحيث يبدو وكأننا، عدنا، تحت رئاسة أمين الجميل إلى ما دون الصفر بكثير، إذا ما اعتبرنا إن زلزال الاجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982 يشكل نقطة الصفر ومنطلق التداعي الذي لما يتوقف.
فمع نهاية السنة الأولى لعهده كان أمين الجميل قد “نجح”، في استعداء معظم القوى السياسية، وفي دفع الدولة نحو وهدة الانتحار، وفي تحطيم هالة الشرعية ومؤسساتها حين أوصلها إلى الصدام (المسلح!!) مع جمهورها الطبيعي (في بيروت بداية ثم في الجبل ففي بيروت مرة ثانية ثم في الضاحية – النوارة -!! – وامتداداتها شرقاً وجنوباً وفي قلب العاصمة).
ومع بداية السنة الأخيرة لعهده يبدو لبنان كله، شعباً وأرضاً ودولة، بمؤسساته “الشرعية” و”الشعبية”، العسكرية والمدنية، ركاماً وأشلاء مبعثرة ونتفاً ممزقة تذروها رياح السموم كما تذرو رياح الخريف أوراق الشجر المحترقة بالموت والليرة اللبنانية الموءودة بذنب الحاكم والمتحكم (صارت قيمة الليرة، حتى هذه اللحظة، أقل من قيمة قرش واحد من ليرة ما قبل أمين الجميل)…
صار مؤتمر جنيف وبعده مؤتمر لوزان للحوار الوطني من الذكريات، وصارت “حكومة الوحدة الوطنية” كابوساً يؤرق ليالينا، وصار بيانها الوزاري الباهظ الثمن والهزيل المضمون آنذاك بعيداً كما الأمنية، وصار الوفاق الوطني في مرتبة المستحيل…
لقد سقط لبنان من ذاكرة الدنيا! صار نسياً منسياً، فإذا ما ذكر فمن خلال مأساة شخص الآخرين (الرهائن مثلاً)، أو بوصفه تفصيلاً في سياق صراعات أخطر منه شأناً وأعظم أثراً (مخلفات الصراع العربي – الإسرائيلي، بحث قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن متكأ لتأكيد حضورها السياسي ولو بقوة “الاشتباك” مع غير عدوها، إضافة إلى الانعكاسات المباشرة لحرب الخليج بكل تشعباتها)…
ومفهوم إن أمين الجميل لا يتحمل بشخصه المسؤولية عن كل ما أصاب لبنان (والمنطقة) خلال هذه السنوات العجاف، ولكن سياسته أدت إلى تفاقم الانهيار وتسريعه وعطلت الإمكانات التي كانت متاحة لوقف التدهور وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في انتظار الحل المرتجى البعيد المنال!
يكفي أن نستدل على سوء السياسة ونتائجها المدمرة بسلسلة من المواقف والتصرفات والإجراءات والأقوال التي صدرت عن أمين الجميل مؤخراً، مع وقفة متأنية أمام “رحلة الحرب” إلى القاهرة لكي تتضح صورة مسؤوليته المباشرة عن تعقيد الوضع المعقد أصلاً بحيث لا يعود بإمكان أية جهة أو طرف أن يوقف التدهور عند حد، مهما بذل من جهد، ومهما بلغ إخلاصه أو إشفاقه على لبنان واللبنانيين.
** يقول مقربون من أمين الجميل إنه، وخلال رحلته الشهيرة إلى الأمم المتحدة وفي طريق العودة منها، قد أبلغهم ما خلاصته:
“- إنني سأعطي السوريين فرصة أخيرة، لقد تقدمت بمبادرة جديدة وطلبت إلى الأميركيين أن ينقلوها إلى دمشق، وأن يلعبوا دور الوسيط، فإذا ما نجحوا كان خيراً، وإلا فإنني وخلال شهرين من تاريخه سأنتقل إلى الحرب المكشوفة ضد دمشق ومن معها، وليكن ما يكون…”.
** ويقول هؤلاء المقربون إن الجميل قد طرح المبادرة وفي ذهنه “البدائل” ومنها: تشكيل حكومة أمر واقع يفرضها فرضاً على الجميع في الداخل وفي الخارج، وعلى سوريا أساساً، بعدما يكون قد دلل على إنها هي التي تعطل الحكم في لبنان، ومن ثم معالجة أزماته الخانقة وفي طليعتها الأزمة المعيشية.
كان قد أعد تشكيلة حكومية من عشرة، في حال التوافق والسلم، أما حكومة الحرب فخطتها أن يبدأ بتكليف الرئيس صائب سلام (المبتعد والمستنكف والمختلف معه)، بتشكيل هذه الحكومة، فيعتذر حتماً، وعندها يعلن تكليف الرئيس تقي الدين الصلح (المبتعد هو الآخر) فيعتذر بدوره، فيعلن تكليف الرئيس سليم الحص (وكيل الميت في الحكومة المستقيلة والمضطر إلى ممارسة أعمال الوكيل بأمل التخفيف من حدة الأزمة المعيشية وإجبار المسؤول الأول على تحمل مسؤوليته)، ومع اعتذار الحص الفوري يعلن الجميل تكليف ناظم القادري (مثلاً) ، فيعتذر، فيكلف الدكتور حسن الرفاعي فيعتذر.. وهلمجرا حتى آخر سني مؤهل لرئاسة الحكومة، فإذا اعتذر الجميع، وصار عذره واضحاً أمام الملأ، بادر إلى إعلان حكومة الأمر الواقع أو حكومة الحرب برئاسة سني (إذا وجد من يرتضي ركوب هذا المركب الخشن)، أو أرثوذكسي حتى لا يزيد على أسباب اتهام الموارنة بالهيمنة سبباً ثقيلاً!!
** ويقول هؤلاء المقربن إن أمين الجميل كان يستبعد الحكومة العسكرية كرهاً بشخص العماد ميشال عون، وحتى لا يعطيه أية فرصة للقفز من هذا الموقع المهتز إلى سدة الرئاسة الأولى، إذا ما نجح في الاختبار، بدعم أميركي محتمل.. كذلك فهو يريد إدخار الجيش كاحتياط استراتيجي لمواجهة وادرة مع سمير جعجع ولسوف تصير حتمية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية….
** ويقول مقربون يدعون إنهم أكثر معرفة باستراتيجية أمين الجميل إنه يعد دائماً لمعركة على جبهتين: جبهة أساسية هي سمير جعجع ومن معه، هدفها توكيد قدرة “الرئيس” على أن يكون الزعيم الماروني (بل المسيحي)، الأول والأوحد، وجبهة ثانوية هي سوريا ومن معها.
ويقول هؤلاء إن هاجس الزعامة المارونية هو الذي يقلق أمين الجميل، وإن أمر الرئاسة والجمهورية بكل من وما فيها لم يعد بين همومه، بل إن مستقبله الشخصي بعد 23 أيلول 1988 هو شغله الشاغل.
في هذا السياق يفرض الموضوع الإسرائيلي نفسه كمحطة بارزة على طريق الصراع مع الجعاجعة، ويصير السؤال: كيف يمكن إعادة جذب الإسرائيلي وإبعاده عن اعتماد سمير جعجع وكيلاً أوحد.
** ويقول مقربون من أمين الجميل إن زيارته للقاهرة يجب أن ينظر إليها، أولاً، في ضوء صراعه مع جعجع ثم في ضوء خلافه المفتوح ومنذ أمد طويل مع سوريا وحلفائها في لبنان.
يضيف هؤلاء: إن بين أهداف أمين الجميل في القاهرة توسيطها لدى العراق ليخفف من مساعداته المادية والعسكرية المؤثرة والتي ترسل تباعاً إلى “القوات اللبنانية”.
ويضيفون أيضاً: إن الجميل ربما حاول إقناع حسني مبارك بأن يبذل مساعيه الحميدة مع الإسرائيليين، ليخفووا من تعاونهم ومساعداتهم لجماعة جعجع.
** على إن الأخطر ما ينقله مقربون إلى أمين الجميل عنه ومفاده: إنه مستعد لإعادة النظر في موقفه من الإسرائيليين، إذا ما هم “تفهموا” وضعه وساعدوه.
وتنقل مصادر ثقة عن الجميل قوله: لماذا المكابرة؟ إن إسرائيل عنصر له تأثيره على الوضع اللبناني، ولا يمكن شطبها أو إسقاطها من المعادلة، ولا بد من قدر من التنسيق أو التفاهم معها، وهذا ما سأحاوله خصوصاً إذا ما استمر الضغط السوري علي ورفضوا مبادرتي الأخيرة!!
ويبدو الكلام وكأنه تلويح بالعودة إلى مناخات اتفاق 17 أيار، بغض النظر عن مدى استعداد إسرائيل للقبول بمثل هذه العودة المستحيلة في ظل الظروف القائمة الآن ومقدار اختلافها نوعياً عن ظروف المنطقة قبل أربع سنوات.
لقد فشل “الوسيط الأخير”، ريتشارد مورفي، في اجتراح المعجزة!
وربما كان هذا الوارد أعلاه بين ما يفسر فشله (بمعزل عن حماسته للمهمة)،
وإذا ما قرأنا بدقة ما نقل عن مورفي بعد عودته إلى واشنطن (في مكان آخر) لتبين بوضوع إن أمين الجميل يخوض مجموعة من الحروب في وقت واحد موضوعها الأول والأخير: شخصه ومستقبل طموحاته السياسية.
فهو في حرب معلنة مع “كل” القوى السياسية في لبنان بدءاً بحزبه الكتائب وانتهاء بالأحزاب جميعاً من الشيوعي إلى البعثي فإلى القومي “فحزب الله، مروراً بسليم الحص ووليد جنبلاط ونبيه بري وسليمان فرنجية وريمون إده وإيلي حبيقة ونزيه البزري ومصطفى سعد وعمر كرامي الخ.
وهو في حرب غير معلنة مع قيادة الجيش،
ثم إنه في حرب شرسة مع “القوات” وحكيمها،
إنه في حرب مع طوائف لبنان جميعاً ومع شعبه برمته، من خلال ما يتحمله من مسؤولية عن إفقار اللبنانيين اليومي وعن جوعهم الذي غطى وجعه الآن على سائر الأوجاع والأوبئة.
وأخيراً وليس آخراً فإنه في حرب مع سوريا،
فماذا ينفعه حسني مبارك في هذه الحروب التي يدفع ثمنها، بداية وانتهاء، شعب لبنان بمسيحييه ومسلميه جميعاً؟!
وماذا يمكن أن يقدم العرب لأمين الجميل في قمة عمان أو خارجها؟
شيء واحد مؤكد: إن الملوك والرؤساء سيتذرعون بالانقسام اللبناني، وبين رموزه الفاضحة “وفد” أمين الجميل إلى عمان، ليمتنعوا عن تقديم أية مساعدة للبنان تحت شعار “اذهبوا فاتفقوا أولاً ثم تعالوا فخذوا المن والسلوى”.
وهكذا يتحمل اللبنانيون عقوبتين في آن: إحداهما مصدرها سوء حكم رئيسهم، والثانية مصدرها تخلي أخوانهم عنهم بحجة “انقسامهم” وعدم تمكنهم من معرفة مركز السلطة في لبنان!
هذا قبل عمان فكيف بعدها؟!
اللهم سترك،
اللهم إننا لا نسألك رد القضاء، بل اللطف فيه… ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير!

Exit mobile version