طلال سلمان

على الطريق أميرة الحزن لن ترفع الأعلام البيضاء!

حزيرانية تماماً كانت صورة بيروت، أمس، وهي تنبثق عبر لهب الحرائق أميرة للحزن!
ولقد استذكر أهل بيروت، وهم يتكومون في الملاجئ أو على “سفرة الدرج” أو يتلطون عند جانبي الشارع، الأيام الإسرائيلية التي عاشوها في الفترة الممتدة بين حزيران وأيلول 1982، فالمناظر هي هي والاستهداف هو ذاته، وإن تبدلت الأداة المنفذة!
وكيف لا يستذكرون تلك الأيام القاسية والعظيمة وهم يرون إلى حرائق القصف الوحشي تلتهم جنبات مدينتهمز وإلى جثث أبنائهم وأخوتهم ممزقة الأوصال، وبينهم بعض أولئك الفتية الغرّ الذين نذروا أنفسهم لإنقاذ الغير، من رجال الاطفاء والدفاع المدني والكشافة، وإلى أجساد الجرحى النازفة وبينهم الطفل والصبية والشيخ والأم الوالدة،
فأما الاستهداف فهو اغتيال روح بيروت ومن تبقى من أبنائها، ومعهم هذه المرة من أضيف إليهم من مهجري الضاحية التي أحرقت واغتيلت قبل خمسة شهور، لكن قصفها المنهجي مستمر ويومي حتى لا تنتفض فتقوم من تحت الأنقاض بهمة أبنائها وليس إلا بهمتهم.
على إن بيروت العظيمة التي احترقت بمدافع الغزو الإسرائيلي ولم ترفع الأعلام البيضاء قبل سنتين، تسامت على جرحها الجديد أمس وقالت بوقف الرد على مدافع متبقيات الغزو ونتائجه من أدوات الاحتلال وقتلة حلم الوطن، حتى لا تتهم في وطنيتها ويحتسب الرد سقوطاً في المستنقع الطائفي.
وكان بين ما لفت أهل بيروت التوافق في الاستهداف بين المدافع الإسرائيلية ومدافع “الشارونيين” و”الشاميريين” على خطوط التماس وخلفها.
فمدافع العدو قصفت وتقصف بعد في بعض أنحاء البلاد لتغيير هوية لبنان وانتمائه ومداره والمسار، ومدافع جماعته والمتواطئين معه تقصف أهل بيروت والضاحية لإجبارهم على ابتلاع ألسنتهم وإعلان التوبة عن ذكر الاصلاح، والامتناع عن محاولة الوصول إلى الحد الأدنى منه ولو عبر مؤسسات الشرعية والحكم، أي عبر ثقة مجلس النواب إياه، وعبر التكرم على “حكومة الوحدة الوطنية” بصلاحيات تمكنها من أن تكون حكومة ، أي حكومة، ذات قدرة ما تكفي لوقف إطلاق النار، وهذا أضعف الإيمان!
وكان طبيعياً أن يستذكر أهل بيروت، في ضوء الحرائق وعلى “أنغام” الأبواق المدوية لسيارات الاسعاف، القصف السياسي اليومي الذي يتعرضون له وبين نماذجه الفاقعة.
1 – إعلان قيادة الكتائب – “القوات” – “الجبهة اللبنانية” التي تربطها بالحكم علاقات الأبوة، إن “خطوط التماس قد وجدت لتبقى” وإن جيش الحكم يحرسها ويحميها ويطلق مدافع دباباته عبرها لحماية حدود التقسيم، فتكون “دولتهم” خلفها، ويكون حتمياً أن يصير الجيش جيوشاً، واحداً لكل طائفة، والأقوى للأقوى ممن يملك مخازن السلاح والذخيرة وشبهة الشرعية وإمكان التعاقد مع المصدرين “الكرماء”.
2 – إعلان شامير وغيره من قادة العدو الإسرائيلي شكهم في قدرة الحكومة اللبنانية على إنجاز ترتيبات أمنية للعاصمة فكيف بترتيبات أمنية للمناطق الحدودية في الجنوب…
3 – استمرار الادعاء بحياد الجيش الرابض على خطوط التماس، مع العلم إن هذا الجيش قد عطل الحياة في واحد من أكثف الأحياء السكنية في بيروت وأكثرها أصالة، منطقة رأس النبع، فهجر أهلها وشرد معهم أهالي الأحياء المقاربة التي يطالها رصاص القنص قبل أن يتحول إلى قنص بمدفعية الميدان.
و”احتلال” رأس النبع وتهجير أهلها إنجاز وموضع فخار لهذا الحكم، لا يشاركه فيه شريك، وهو إنجاز تحار في تبريره أو تفسيره واستنباط الحكمة منه، فهل جاء هذا الجيش ليمنع زحف رأس النبع على مستشفى أوتيل ديو أو فندق ألكسندر، مثلاً ومن بعده ثكنة قوات “الشرعية” المسماة “أس. كا. اس”؟!
4 – العمل الدؤوب لإثارة مزيد من الفتن الطائفية والمذهبية، لإلحاق مزيد من التشويه بصورة بيروت الأصلية، بيروت الجامعة والمكتبة والمطبعة والصحيفة والكتاب، والمستشفى والأغنية والوردة، بيروت أميرة العرب الساحرة بمناخ الديموقراطية فيها وروح الحوار المطلق من قيود القمع والعسف والتخلف، والمتحرر – برغم كل ما كان – من أسار العصر الإسرائيليز
فإضافة إلى الدعايات والشائعات الكاذبة، وتضخيم بعض الأخطاء والتجاوزات المؤذية (والناجمة أساساً عن تورط الحكم في مسلسل الخطايا المميتة الذي أدى إلى نحر الدولة وتغييبها وتعطيل دورها الطبيعي، وهو دور لا يمكن لأحد أن ينجح في تعويضه كلية).
وإضافة إلى الانحياز الكامل لمنطق العدو الإسرائيلي في تصوير “عجز” الحكومة التي لم تستكمل ولادتها بعد مبرراً لإطالة أمد الاحتلال للجنوب والبقاع الغربي، وراشيا وبعض الجبل وصولاً إلى الباروك،
وإضافة إلى محاولة دمغ المجهود البطولي لشعبنا المقاوم ضد الاحتلال بالدمغة الطائفية، بحيث تمحي صورة الوطن تماماً ولا تبقى غير صورة الوحش الطائفي ومرتعه ومهجعه قطعاً في أحضان العدو الإسرائيلي.
إضافة إلى ذلك كله فإن مدافع الكتائب – “القوات” – “الجبهة اللبنانية” – وبعض الجيش دأبت في الأيام الأخيرة، وفي ظل ترويجها لانفجار لا يبقى ولا يذر يوم 15 حزيران (؟!!) على انتهاج التكتيك التالي:
تبدأ بدك الضاحية دكاً عنيفاً ومتصلاً حتى إذا ما رد من في الضاحية على القصف بالقصف حولت المدافع فوهاتها في اتجاه بيروت، بحيث تبدو بيروت ضحية لرعونة من في الضاحية وليس لقاصفيها وقاصفي الضاحية وقاصفي حلم الوطن في آن.
وأصحاب المدافع الإسرائيلية الأهداف يحاولون إذكاء نار الفتنة المذهبية، فعبر استدراجهم الرد يتسببون في ضرب الشعور بالأمن لدى البيروتيين الخائفين على ما تبقى من مدينتهم ومن ممتلكاتهم ومن بيوتهم والذكريات الحميمة فيها… وطالما إن الضاحية مفرغة من أهلها، تقريباً، وضحايا القصف هناك لن تكون إلا بعض القتلى إلى جانب العمارات والبيوت، فهي لن تكون خبراً في الاذاعات أو الصحف، ولن يسمع بها أحد، وحتى من يسمع بها فلن يعتبرها أبداً سبباً كافياً للرد ومن ثم إلحاق الأذى به هو.
وهكذا تتحرك النعرات المسمومة وتنخر الصفوف، وفقاً للخطة الإسرائيلية، ويتحول الاهتمام عن الممارسات الخاطئة للحكم وجيشه والقوى المساندة له، وتسببهم جميعاً في تعطيل الدولة والحكومة إلى مخاطر الفتنة بين السنة والشيعة، المسبوقة أصلاً بمشروع قيد التنفيذ لتسعير نار فتنة بين السنة والدروز.
وبيان “القوات اللبنانية” الصادر أمس يقدم دليل إدانة قاطعة إذ يشكل في جانب منه دعوة مفضوحة للفتنة المذهبية وتحديداً بين السنة والشيعة.
أميرة الحزن مجللة بالسواد، الآن،
لكنها لن ترفع الأعلام البيضاء اليوم، فهي لم ترفعها ولم تستسلم أمام العدو الأصيل، وبالتأكيد لن ترفعها استرضاء لـ “الوكيل”،
وستمضي في طريقها رافعة أعلام تحرير الأرض والإنسان، من الاحتلال والهيمنة والسرطان الطائفي وبقايا أهل الكهف المعادين للحياة، للشمس، للهواء، للحب، للورد للعطر، لكل ما هو جميل وبهي وإنساني.
وستشكل في الطرحة السوداء زهرة غاردينيا بيضاء، إيماناً بقدرتها على صنع الغد الأفضل، الغد الذي يتحقق فيه حلم الوطن ويأتي من رحمها وعلى صورتها ومثالها، ففي رحمها يكمن الجنوب والشمال والبقاع والجبل والضاحية النوارة.
والحياة شرف وحق لمن حمى شرف الحياة وحقه فيها..
وليكن شهداء الأمس، كما الذين سبقوهم، مهراً لاستحقاقنا شرف الحياة في وطن موعود.

Exit mobile version