طلال سلمان

على الطريق أمثولة لبنانية للجعاجعة العرب!

يستطيع اللبنانيون أن يهنئوا أنفسهم اليوم: لقد باتت الحرب الأهلية خلفهم فعلاً، وهم قد خرجوا منها ولم يعد شبحها يطاردهم في يقظتهم كما في أحلامهم، واجتازوا خطر الانجراف مرة أخرى إلى أتونها المدمر.
لم ينظر أحد إلى محاكمة سمير جعجع أمام المجلس العدلي، أمس الأول، على أنها محاكمة “إسلامية” للمسيحيين في لبنان، أو أنها محاكمة “سورية” للمنادين بالاستقلال والعنفوان والسيادة والكرامة الخ،
حتى المتعاطفون مع جعجع، والمعترضون على محاكمته وحده من دون سائر “الشركاء الخصوم” والمتشككون في سلامة التحقيق حول مسؤوليته في تفجير كنيسة سيدة النجاة في الذوق، عند مدخل كسروان، أو في اغتيال داني شمعون وعائلته في بعبدا، قلب المتن الجنوبي وعاصمة “المتصرفية”…
حتى هؤلاء يسجلون اعتراضات من طبيعة “سياسية” أكثر منها طائفية، وهي تندرج عموماً في خانة المعارضة والتحفظ على نزاهة الحكم وحيدته وقدرته على تجسيد “دولة الجميع” و”الحكم” والمرجع الصالح أكثر منها رفض للمبدأ،
لقد استعاد المجتمع قدراً من العافية يمكنه من مواجهة مخاطر الانقسام على قاعدة طائفية من دون أن يخسر وحدته (الضعيفة بعد) أو دولته التي هي دائماً قيد التأسيس.
ومع الأخذ بالاعتبار عصبية الجيش التي شكلت العمود الفقري لمعركة الثأر من “القوات اللبنانية”، فلا بد من التسجيل أنها تصب الآن في حساب الدولة ولا تسحب من رصيد الدولة، ومن هنا فإن ساحتها القضاء وليس حرب الشوارع أو المواجهات بالسلاح في مختلف أنحاء “المناطق المحررة” في الكانتون الجهيض.
إنها الآن خارج الإطار الذي كان لمواجهات الماضي: فليست بين “الجنرال” و”الحكيم”، وليست حرباً داخل الطائفة وتحت شعار موقع الطائفة داخل النظام وأيهما جيشها الفعلي “القوات” بقيادة “الحكيم” أم الوحدات العسكرية المنضوية تحت لواء العماد ميشال عون.
من هنا أن هذه المحاكمة الاستثنائية ، وبغض النظر عن طبيعة الأحكام التي ستصدر بنتيجتها ، قد تكون فرصة تاريخية لتبلور فكرة الدولة ووقوفها على قدمين.
فالأساس (النظري) في محاسبة جعجع و”قواته” هو الخروج على مشروع الدولة وليس الخروج على طاعة قيادة أو قوات أخرى داخل المشروع التقسيمي ذاته ذي القاعدة الطائفية الصريحة.
ولعل بين مزايا هذه المحاكمة أنها قد تسرّع فض الاشتباك داخل “الموارنة” حول معضلة العلاقة بين الطائفة والدولة: هل هي دولة الطائفة أم أن الطائفة تتنحى لتتمكن الدولة من أن تقوم بالموارنة وسائر اللبنانيين من أبناء الطوائف الأخرى، وتكون لهم جميعاً ويكونون جميعاً داخلها وتكون هي داخلهم جميعاً قبل انتماءاتهم الطائفية وبعدها.
إنه إشكال غاية في التعقيد ومتى تم حسمه داخل “الطائفة العظمى” أمكن اعتماد نتائجه قاعدة ثابتة في العلاقة بين الدولة والطوائف اللبنانية التي ما تزال تنظر إلى نفسها وحتى هذه اللحظة أنها دول مكتملة البنيان فوق “الدولة” قيد التأسيس.
… والداخلون إلى الحرب الأهلية!
صار لبنان، إذاً، خارج الدائرة المحرقة للحرب الأهلية، بينما العديد من الأقطار العربية يتقدم على طريق مسدود نهايته الحتمية – حتى إشعار آخر – هي الحرب الأهلية!
لقد جاءت لحظة الحقيقة وانكشف العجز الفاضح الذي تعاني منه معظم الأنظمة العربية الحاكمة، بطبيعة تكوينها وشرعية تمثيلها لمجتمعاتها، ناهيك بأنها تعيش حالة من الشيخوخة لطويل إقامتها فوق سدة السلطة.
من الجزائر إلى اليمن، تهدر رياح الحرب الأهلية ويتطاير الشرر منذراً بحرائق قد تصعب السيطرة عليها.
الضمانة الوحيدة، في كل قطر مهدّد ، هي قوة مؤسسة الدولة فيه.
فحيث مؤسسة الدولة عريقة وقوية ومتجذرة وتلبي الحد الأدنى من احتياجات مواطنيها، تظل الحرب الأهلية مستبعدة، حتى حين يتوغل الحكم في طريق الخطأ ويلجأ إلى السلاح في مواجهة معارضيه. ذلك أن المعارضة هناك تظل على تمسكها بالدولة حتى وهي تنزل إلى الشارع لمقاتلة النظام (كما في مصر)..
السلطة دائماً هي المسؤولة عن تحول الصراع السياسي عن مساره الطبيعي إلى حرب أهلية، لاسيما حين تختصر السلطة الدولة في شخص الحاكم وبطانته والمستفيدين من حكمه. إنها بذلك تقزم الدولة وتنسف مرتكزاتها فتلحق بها من الأضرار ما لا تستطيعه المعارضة من الخارج، وتصدر بذلك حكم الإعدام على الجميع: سلطة ومعارضة ودولة وأرضاً وشعباً ومؤسسات…
وها نموذج العراق وصدام حسين شاهد ودليل.
هناك أيضاً نموذج الجزائر حيث أنهكت الطموحات المكلفة للحاكمين الدولة الوليدة، وحيث فشل “الثوار” في التحوّل إلى حزب سياسي أو أحزاب سياسية لها مشاريعها وبرامجها المعبرة عن مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة، فكان إن تحوّل “الحزب الحاكم” إلى جيش من العاطلين عن العمل بلا مشروع ولا قضية، في حين حوّلت السلطة جيش التحرير المتعدّد المنابت والأصول إلى “حزب الحاكم”، لا يتوحد إلا فيه.
ولأن الجيش بات أقوى – عملياً – من الدولة، ولأن الحاكم الوريث جاء أضعف في السيطرة على الجيش من سلفه “التاريخي”، فقد تفجرت الحرب الأهلية بين المتحدرين من مصدر الشرعية ذاتها: جبهة التحرير الوطن وجيشها “الشعبي”.
لقد تهافت الحكم فبات أضعف من أن يقبل شراكة الأقوياء.
وفي ظل رفضه، تنامت المعارضة واستقطبت جمهوراً عريضاً من المتضررين من حكم الفئة الواحدة أو الطبقة الواحدة، حكم حزب الحاكم، أي الجيش، الذي تحوّل الآن إلى حاكم فعلي وإن ظل بحاجة إلى واجهة شرعية مستعارة وهشة،
وهكذا باتت المعارضة أقوى من أن يقبل الجيش الحاكم بإشراكها في السطلة ويفتح لها الباب للولوج بزخمها إلى قلب نظامه الفارغ والمتهالك.
لكن هذا الحكم الضعيف بحيث لا يقبل الشراكة أقوى من أن يخلع، بانقلاب عسكري، مما يجعل الحرب الأهلية وكأنها قدر لا مفر منه.
غزة: لمن السلطة؟!
أما نموذج غزة ففريد في بابه،
ذلك أن ثمة سلطة ولا دولة، وثمة شرطة ولا نظام، وثمة معارضة ولكن السلطة الفعلية التي تواجهها حقاً هي “دولة الاحتلال الإسرائيلي” وليس ذلك الآتي من الخارج ومعه “جيشه” المهجن والمحكوم بأن يتحول تدريجياً إلى “حزب الحاكم”.
لكن هذا “الحاكم” بات بعد الدخول يستمد شرعيته من الاحتلال، وبات جيشه محكوماً بأن يكون حرساً لحدود الاحتلال، وبالتالي محكوماً بأن يواجه المنتفضين ضد الاحتلال.
وبغض النظر عن النوايا فقد بات مستحيلاً على ياسر عرفات أن يلعب الدور المزدوج: رئيس السلطة التي لا تقوم إلا إذا تم الانسحاب (حتى لا نقول التحرير)، والمسلم بشروط المحتل الإسرائيلي بأنه لن ينسحب إلا إذا توقفت الانتفاضة وضمنت له شرطة عرفات أمن المستوطنات والمستوطنين وتدفق عمال التراحيل الفلسطينيين إلى داخل كيانه ليقوموا بما يأنف عماله القيام به.
لا يستطيع عرفات أن يسلم بأنه ليس السلطة (أقله في غزة)،
كذلك فهو لا يستطيع أن يتحمّل مسؤولية سلطة يمارسها غيره باسمه، في غزة ذاتها ومن حولها وخارجها،
بالمقابل لا يستطيع عرفات أن يتوحد مع المعارضة التي تطرح نفسها بديلاً منه ووريثاً لمجموع التركات: الانتفاضة واتفاق أوسلو وسلطة اتفاق القاهرة.
ويكون طبيعياً أن ينسحب الإسرائيلي عن المسرح، وأن يصدرإسحق رابين من واشنطن أوامره إلى جيشه بعدم التورط في هذا “الشأن الفلسطيني الداخلي”؟!
وكيف يكون داخلياً وغزة بلا داخل، فداخلها خارج يدها، وشأنها الداخلي موزع بين قهر الاحتلال الإسرائيلي وشح الدول المانحة في الغرب القاسي؟!
ربما لذلك تتخذ شعارات المعارضة سياقاً مخالفاً للمألوف في المواجهات مع “الطغاة” في أمكنة أخرى… فالهتافات والمطالبات تتركز على “خروج” أو “إخراج” عرفات و”جيشه” من غزة!
والمعادلة شبه مستحيلة: تبقى إسرائيل فتخرج فلسطين من غزة، أو تبقى فلسطين فتخرج إسرائيل من غزة والضفة وربما من أردن “الملك الضليل”، ويخرج معها من أدخلته ليحميها من “الداخل”.
فعرفات لا يستطيع أن يكون فلسطينياً مع الإسرائيليين، ولا إسرائيلياً مع الفلسطينيين، ولا مزيجاجً من الطرفين في مواجهة كل منهما،
وليس إلا الوعي والتجربة السياسية العريقة والنضوج الفكري سبيلاً لتجنب المحظور: انتحار الانتفاضة المجيدة في أتون الحرب الأهلية التي كانت وما تزال وستبقى سلاح إسرائيل السري داخل الكيانات العربية الهشة والمحكومة بالقمع والتخلف لتحقيق اجتياحاتها التاريخية المذهلة لإقامة “الشرق الأوسط الجديد” تحت علمها ذي النجمة السداسية.
ولنأمل أن يتعظ البعض بتجربة لبنان، وأن يستفيدوا من خواتيمها،
وبين المشاهد التي يجب أن تترسخ في أذهان الجميع صورة سمير جعجع في قفص المحاسبة عن قصور مخيلته السياسية وعن الخطأ الفاضح في قراءة خريطة التحولات!

Exit mobile version