طلال سلمان

على الطريق أعلام الغير!

صارت الهزيمة خبزنا اليومي، صارت كرويات صفراء تجري مجرى الدم في عروقنا، صارت بعض الهواء الذي نتنشقه ونعيش عليه،
تعودنا الهزيمة حتى أدمتنا وأدمناها، وهانت علينا نفوسنا والكرامات والعنفوان حتى لم يعد يهزنا حدث أو خبر.
رماد، رماد، رماد،
تفتح المذياع فينهال عليك الرماد بيدراً من الأسماء الباهتة التيلا تعطيها الألقاب المفخمة أي معنى، حتى إنها لم تعد تنفع فيث إثارة سخريتك، السخرية ذاتها تحتاج موضوعاً، فكيف تسخر بمن هو غير ذي موضوع؟!
تمسك بالجريدة فتجد كتلاً من الرماد، ومساحات من الكلمات الميتة، لا نبض فيها ولا روح، تمارين في الإنشاء، سبكها ركيك، حروفها مجلجلة الدوي لكنها بغير مضمون، تعاني من فقر في المعنى، بل هي غالباً ما تستخدم في غير موقعها ولغير معناها الأصلي وربما لنقيض معناها تماماً.
أما التلفزيون، حماك الله من آثامه، فيملأ عليك جو غرفتك رماداً، ويخترق برماد الصور ورماد التصريحات ورماد الأسماء صدرك وذهنك فلا تنتهي نشرة الأخبار إلا وأنت على وشك الإغماء قرفاً أو يأساً… أو إنك تستحيل، بدورك، رماداً يتوه في بحر الرماد الذي ينفثه في وجهك هذا الجهاز اللعين!
رماد في رماد في رماد، وحتى رد فعلك يظل في خانة الرماد! لقد استنزفت أعصابك، أفكارك، رؤيتك، قدرتك على التحليل والاستنتاج، واستنزفت عواطفك وحتى الغرائز فافتقدت قدرتك على الدهشة والتعجب ناهيك بالفرح والحزن والشعور بدفء الكلمات والمعاني واللفتات الحميمة.
لماذا هذه الكلمات السوداء في وصف الحالة الرمادية السائدة؟!
لقد ازدحمت علينا مجموعة من الصور والمناظر النافرة والمؤذية فاستفزت ما تبقى من العقل ومن المشاعر الطبيعية فكان لا بد من إطلاق صرخة ألم، من التعبير عن الوجع الممض الذي ألفناه حتى لم نعد نعرف كيف نعبر عنه، فما بالك بأن ننفضه عنا أو نعالجه طلباً لشقاء مستحيل؟!
ولنعدد بسرعة بعض الأمثلة، التي مرت بنا سراعاً فلم تستوقفنا، أو إنها استوقفتنا للحظة قصيرة لوينا لبعضها أعناقنا وهززنا رؤوسنا، وربما تنهد بعضنا حسرة، ثم مضينا لا نلوي على شيء حتى لا نتسبب في استدرار المزيد من الألم واليأس والشعور بالصغارة والهوان:
*مثال أول:
صورة عالمية وزعتها الوكالات وأبرزتها الصحف في صدر صفحاتها الأولى لعربي من الكويت، بالكوفية والعقال والدشداشة، يتسلم من مسؤول أميركي ما، وبمنتهى الاحترام، والاحتراز والتهيب علم الولايات المتحدة الأميركية لكي يرفعه على ناقلات النفط الكويتية!
لقد تربينا على أن نحب أعلامنا، التي كانت ممنوعة وفي فترات معينة محرمة علينا، وتربينا على أن نحترم أعلام الشعوب جميعاً!
وتربينا على أن نتجاوز هذا الاحترام، تحت وطأة الشعور بالظلم، فننهال على أعلام الدول الظالمة تمزيقاً وإحراقاً، كتعبير عن رفضنا لإذلال الاستعباد والاستعمار والاستغلال البشع للشعوب المغلوبة على أمرها،
أما الآن فها إن دولة عربية علمها هو تحوير لوني لعلم الثورة العربي، علم “بيض صنائعنا، سود وقائعنا، حمر مواضينا”، ها إن هذه الدولة تقصد واشنطن إياها لتستعير منها علمها ذا النجوم لتحمي بها ناقلاتها التي تحمل النفط العربي إلى الأميركان بالذات أو على حلفائهم وأتباعهم في مختلف أنحاء “العالم الحر”،
هكذا، وببساطة، تحول العلم الذي تعودنا أن نرى فيه رمز التسلط والقهر والدعم غير المحدود للعدو الإسرائيلي، إلى رمز للحماية والأمان وتأمين المصالح الوطنية وربما القومية!!!
وبغض النظر عن حجم الخطأ في السياسة الإيرانية تجاه الخليج العربي وأهله، وهو جسيم في أي حال، فإن هذا المهرب المهين لن يحل الأزمة بل هو سيعقدها وسيضيف إليها أبعاداً خطيرة.
فأعلام الغير لا تحمي ولا توفر كرامة لغير أصحابها،
والإعارة هنا ليست “نخوة” أو “شهامة” أو غيرة على مصالح الكويت والكويتيين، بل هي إعلان صريح بإفلاس الأمة وباندحارها وبهوانها على ذاتها كما على الآخرين، وعلى ارتهانها لمصلحة قوى معادية – بالضرورة – لكل ما يوفر لهذه الأمة كرامتها وعزتها ومصالحها الحيوية أي حقها في غد أفضل.
أي حياة هذه التي تطلبها تحت أعلام الآخرين، سيما وإن الآخرين هنا هم في قائمة أعدائك؟!
وأعلام الآخرين قد توفر الأمن والأمان للناقلات والذهب المنقول للغير، ولكن ذلك لا يمكن أن يتم إلا على حساب كرامة تلك الدولة التي لا ترى في علمها ما يكفل لها موجبات استقلالها وحقها في الوجود،
أأعلامنا للمهرجانات وأعياد الجلوس فقط؟!
*مثال ثان:
بعدما قتلوا رجل الدولة الأبرز في لبنان، ورجل الحل، يحاولون الآن قتل ذكراه،
على مستوى السلطة، يكاد يطوى أمر التحقيق والمسؤوليات في هذه الجريمة السياسية التي تكاد تعادل اغتيال لبنان ودولته.
وعلى مستوى السياسية: يكاد يظهر جلياً وكأن قتل رشيد كرامي كان بمثابة الاعلان الرسمي عن الشروع في تحويل الانقسام إلى تقسيم حقيقي للبلاد وشعبها،
ومفهوم أن يكمل قتلة رشيد كرامي مهمتهم في طمس ذكراه، أما أن تساعدهم قوى يفترض أن تكون “توحيدية” ومعادية للتقسيمن وأن تتهرب بعض القيادات العربية، من حيث مسؤولية الموقع الذي تحتل، من واجبها القومي، فهذا أمر غير مفهوم وغير مقبول.
إن ذكرى الأربعين لرشيد كرامي هي، بالفعل، ويجب أن تكون، نقطة تحول في تاريخ لبنان السياسي، بدوره العربي، بهويته العربية، تعزز هذا الدور وتؤكد هذه الهوية وتشكل انعطافة في مجرى الصراع السياسي بحيث تتأكد غلبة الوحدويين (وهم عرب بالضرورة) على التقسيميين (وهم صهاينة أو متصهينون بالضرورة)، ونهائياً،
وبهذا المعنى فإن المستنكف عن المشاركة في هذه الذكرى، أو الهارب من الالتزاز بدلالاتها السياسية، إنما يؤدي خدمة ثمينة للقتلة، هذا حتى لا نتهمه بالتواطؤ معهم.
إن الاحتفال بذكرى الأربعين لغياب رشيد كرامي هو احتفال يستحضر وحدة لبنان وعروبته وطبيعة الحل العربي لأزمته، وبهذا المعنى فهو واجب كل وطني وكل عربي.
وليست مقبولة الأعذار التي تتلطى وراء موجبات البروتوكول ، أو تلك التي تتستر بالمخاوف الأمنية لتبرير تقصير سياسي عن أداء واجب قومي.
*مثال ثالث:
لا سقف لارتفاع سعر صرف الدولار بالليرة اللبنانية، فأمس احترق سقف المئة وستين ليرة، وبعد فترة قد يتجاوز المئتي ليرة ولا رادع أو ضابط أو قدرة على الردع والضبط.
حتى هذه اللحظة ما تزال الغرائز الطائفية أقوى من الجوع، بدليل إن الفقراء ومحدودي الدخل وحتى متوسطي الدخل لم يتوحدوا ولم يتقاربوا ولم يتمكنوا من اختراق خطوط التماس بين الطوائف ليحموا حق أطفالهم في الحليب والدواء ورغيف الخبز،
صارت الطوائف قبوراً وصار أمراؤها حفاري قبور لأتباعهم وما زال الناس يتدافعون إلى الحفر بحماسة قل نظيرها في أوساط المنتحرين!
رماد، رماد، رماد،
من تراه يستولد العاصفة لتذري هذا الرماد المهيمن والمغطي على حقائق الحياة ومشاعر الناس الطبيعية؟!
من يحمي حق الإنسان في أن يحلم، في أن يحب، في أن يأخذ من الشمس قبساً يستضيء به ويتدفأ وينسج منه ثوب غده الأفضل؟!
من غير الإنسان ذاته يستطيع أن يرسم طريق الخلاص من الرماد وأهل الرماد وعصر الرماد؟!
فلا أعلام الآخرين تنفع في أشعارك بقيمة،
ولا الهرب من الأرض إلى السماء ينفع في حسم المسائل والمشكلات الناجمة عن سيادة مناخ الهزيمة و”قيمها”،
ولا السكوت عن القتلة والجناة يمكن أن يحمي حق الناس في الحياة وفي الوطن،
ولا الغرق في الرماد يمكن أن يؤدي إلى غير الاختناق بالرماد،
فلننفض عنا رماد الهزيمة،
فلننهض، ولنسحق الرماد والمنتفعين به جميعاً،
ولتكن الخطوة الأولى في طرابلس، طرابلس الشام، طرابلس رشيد كرامي، طرابلس التي فيها بعد جذوة مباركة تعطي النار والنور.

Exit mobile version