طلال سلمان

على الطريق أزمة الخروج من الأزمة!

مرة أخرى يجد لبنان نفسه في مواجهة حقائق وجوده الثابتة، التاريخية والجغرافية، بوجوهها وتعبيراتها السياسية والاقتصادية والثقافية.
ومرة أخرى يتحقق لبنان من أن لا شيء ينفعه إلا الصدق مع الذات ومع الآخرين والانطلاق من هذه الحقائق الباقية في الأرض والمبقية على الأرض والشعب والدولة، حتى لو كانت لا تعجب بعض المشتنجين أو المتشاطرين أو المتاجرين بالهوية والانتماء وتبديل الوجه بسرعة تبدل الرياح ومصادر هبوبها.
فلبنان “مع” الغرب، ولكنه ليس “منه” بل هو “من” العرب، وهو بعض محيطه وجزء لا يتجزأ منه ومنهم، بغض النظر عن العواطف والأهواء والغرائز المستثارة.
هكذا هو وهكذا يعامله العالم كله، بمن في ذلك بل ولاسيما الأميركي والإسرائيلي،
والعالم كله يتعاطى مع لبنان، وسيظل يتعاطى معه انطلاقاً من أن أوضاعه السابقة والراهنة والمقبلة هي جزء من كل، وانعكاس لبعض وجوه ما يسمى “أزمة الشرق الأوسط”…
ومضحك هو التصور بأن الإسرائيلي الذي خلق وجوده أزمة الشرق الأوسط” وفاقمها وما يزال يفاقمها بالاستناد إلى الأميركي (والغربي عموماً) معنى أو مهتم أو هو عنصر مساعد على إخراج لبنان من هذه الأزمة – الدوامة.
ومضحك أكثر هو التصور الأكثر تفاؤلاً الذي يفترض أن الأميركي معني أو مهتم بحل أزمة لبنان بمعزل عن نظرته وفهمه الخاص لطبيعة “الأزمة” في المنطقة ولدوره هو فيها ولمردودها عليه.
أما المضحك المبكي فهو أن نطالب العرب بأن يساعدونا في حل مشكلتنا التي هي بعض مشكلتهم الأم، والتي هي في نظر البعض هنا من صنع أيدي العرب، مشترطين عليهم سلفاً أن يقبلوا تبرأنا منهم وانفصالنا المطلق النهائي عنهم على أن يستمروا في شراء مواسمنا وفي استخدام مرافئنا وفي فتح بلادهم الغنية أمامنا وفي إيداع أموالهم الهائلة في مصارفنا أو في المصارف الأخرى ولكن بواسطتنا وعن طريقنا ومع حفظ حقنا في العمولة.
لقد تهاوى، في ظل ننتائج الاجتياح فالاحتلال الإسرائيلي، ذلك المنطق البائس الذي كان يعتبر أن خروج لبنان من أزمة المنطقة رهن بإخراج الفلسطينيين منه. ولعل أصحاب هذا المنطق قد تحققوا، بالملوس الآن، إن تجاهل جوهر الأزمة، أي صراع الوجود بين العرب والإسرائيليين، لا يساعد مطلقاً في تلمس الطريق للفصل بين وجه بحت داخلي للمسألة اللبنانية وبين أزمة المنطقة ككل.
إن “مجيء” الإسرائيليين “لإخراج” الفلسطينيين قد دفع بلبنان قدماً في اتجاه قلب الأزمة، وليس في اتجاه الخروج منها، وصار “الحل” العتيد للبنان هو ذاته المدخل إلى “تسوية” الأزمة الأصلية.. ومن هنا “مجيء” الآخرين، وتحديداً الأميركيين ومن معهم.
كذلك فإن مجيء الأميركيين ومن معهم كقوة ردع تحل محل السوريين (ومن كان معهم من العرب) لم ينفع لبنان للخروج من “الأزمة”، بل عقد احتمالات الخروج… فالدور الأميركي متى زاد عن حد معلوم يدفع بلبنان إلى التوغل أكثر فأكثر داخل تعقيدات الأزمة بل ربما جمده في قلبها في انتظار أن يأتي أوان “الحل الكامل”؟!
فإذا كان الوجود الفلسطيني قد دفع بالإسرائيلي، في منطق البعض ، إلى اجتياح لبنان واحتلاله ، فها هو الاحتلال الإسرائيلي يدفع لبنان إلى طلب دور أميركي أكثر فعالية وأكثر جذرية وأبعد مدى مما يجب. وصحيح إن لبنان ينطلق من أن واشنطن تتحمل تجاهنا مسؤوليتين: الأولى مسؤوليتها الشاملة بوصفها زعيمة “للعالم الحر”، الذي نباهي بانتمائنا إليه، والثانية مسؤوليتها المباشرة عن إسرائيل وقدراتها وحركتها في المنطقة، وهي حركة منضبطة ومحكومة (في النتيجة) بمشروع أميركي أوسع وأعم، ولكن الصحيح أيضاً إن “مجيء” واشنطن لتتحمل هاتين المسؤوليتين من فوق أرضنا سيؤدي إلى نتائج خطيرة لعلها لم تكن في حسباننا.
وها هم السوفيات يرفعون صوتهم، يحذرون، ويزيدون من فعالية حضورهم في المنطقة، خصوصاً وإن هذا الدور الأميركي له – ولو بنسبة ما – وجهة العسكري،
والتحذير موجه إلى لبنان، وقد اتخذ حتى الآن أشكالاً عديدة، آخرها المقال الذي كتبته “هيئة تحرير البرافدا” أمس في الصحيفة السوفياتية الأولى والأهم والتي تعبر مباشرة عن سياسة القيادة السوفياتية بأعلى مستوياتها.
قالت “البرافدا”: إن قضية الساعة الآن مستقبل لبنان كدولة مستقلة وذات سيادة يهددها خط التجزئة وفقدان الاستقلال.
وقالت: إن البنتاغون قد استغل العدوان الإسرائيلي للتشبث بلبنان كرأس جسر جديد في الشرق الأوسط.
وقالت : إن القضية المفتعلة حول التواجد السوري يحتاج إليها كذريعة لتطويل الاحتلال الإسرائيلي وتبرير التواجد اللاحق لمشاة البحرية الأميركان في لبنان.
كل ذلك التخلص “البرافدا” إلى الاستنتاج بأن الهدف الأميركي – الإسرائيلي المشترك هو “إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، والاعتداء على سيادة لبنان وحرمة ترابة، وجعله مسرحاً للعمليات الحربية ضد سوريا المجاورة، وبؤرة دائمة للتوتر في المنطقة وهي منطقة متفجرة أصلاً”.
وبغض النظر عن مدى الموافقة على أو الاختلاف مع الاستنتاجات السوفياتية فإن أهم دلالاتها أن لبنان بات اليوم أكثر من أي يوم مضى في قلب “أزمة الشرق الأوسط”، وفي قلب مضاعفاتها الخطرة دولياً “كمسرح عمليات حربية” ضد سوريا ومن خلفها العرب و”بؤرة دائمة للتوتر” في منطقة كانت دائماً أحد أبرز ساحات الصراع بين القوى العظمى.
ما الحل، إذن؟!
وكيف السبيل إلى “فصل” محدود بين الجوانب المحلية للمسألة اللبنانية، وبين أزمة المنطقة وما يعني لبنان منها مما لا يمكنه الانفكاك عنه؟!
الحل ليس سحرياً وإن كان بسيطاً كأي حقيقة، وملخصه: الانسجام الكامل مع حقائق وجود لبنان الثابتة، التاريخية والجغرافية، بوجوهها وتعبيراتها السياسية والاقتصادية والثقافية،
الحل أن نكون نحن، بمن نحن، وحيث نحن.
الحل أن نعود إلى أنفسنا داخلياً، ونجدد وندعم “الصيغة” التي ارتضيناها أساساً لقيام لبنان، وطناً، يستحقه الناس وينتمون إليه بمواطنيتهم ومن ضمنها مذاهبهم وطوائفهم وليس بهذه فحسب.
والحل في أن نقيم دولة للبنانيين جميعاً وليس لفئة منهم أو جبهة أو حزب أو لمجمع من القبائل والعشائر أو فلعصبة من أمراء الاقطاع.
والحل أن نكون مع العرب عرباً منهم، مستقلين ومتمسكين بالسيدة حتى العظم، ولكن منهم وفيهم ومعهم.
… ومعهم بغير وسيط،
فتجربة مصر أكدت – وبالمطلق – إن اللجوء إلى الولايات المتحدة ليس عودة إلى العرب، بل وليس طريق العودة إليهم.
وتجربة مصر أكدت – وبالمطلق أيضاً – إن الخروج على العرب ليس خروجاً من أزمة المنطقة بل هو تحول إلى عنصر تأزيم وتعقيد للأزمة ينهك البلد ويؤجج الصراعات جميعاً وينقلها إلى قلبه بدلاً من أن تكون على حدوده أو خلفها.
ولبنان الآن حد لحلف الأطلسي، وحد لحلف وارسو من الجهة الأخرى. كما تقول الزميلة “العمل” وإن خالفتنا النظرة إلى طبيعة الحل وطريق الخروج وأشياء أخرى كثيرة.

Exit mobile version