طلال سلمان

على الطريق أريحا الهزيمة العربية!

حتى هذه اللحظة، يبدو مشروع “غزة – أريحا أولاً” مشروعاً إسرائيلياً وافقت عليه القيادة الفلسطينية ثم تبنته الإدارة الأميركية باعتباره “إنجازاً” تاريخياً لحلفائها من “المعتدلين” في قلب الكيان الصهيوني.
ومن الصعب مناقشة هذا المشروع بمنطق يفترض أنه “فلسطين” المنشأ حتى لو كان الفلسطيني هو الأعلى صوتاً في الدفاع عنه والترويج له (عربياً على الأقل).
إنه مشروع يصادر ما تبقى من فلسطين كقضية عربية، ويسقط حق أي عربي في مناقشته ومن ثم الاعتراض عليه.
إنه لم ينتظر، ولعله لا يطلب الرأي العربي فيه، بل لعل بين مسوغات إعداده وطرحه أن يُخرج الفلسطينيين من العروبة وأن يخرج فلسطين من وجدان العرب وليس فقط من أيديهم.
إنه مشروع يتكئ على الهزيمة العربية لكي يبرر للفلسطيني انسلاخه عن أمته مع مفعول رجعي: فهو يتصرفل وكأن العرب هم من أفقدوه فلسطين القديمة وأنه يبتعد عنهم ليستنقذ منهم ما تبقى منها حتى لا يخسر “أريحا” بعدما خسر أرض 1948 وأرض 1967 وما بينهما.
وهذا التبرير لا بد منه للمباشرة في نسج تحالف إسرائيلي مع بعض الفلسطينيين، وتحديداً مع القيادة الرسمية للفلسطينيين، يواجه العرب “في الخارج”،
فلسطين لمن على أرضها، والخارج خارج!
والذين على أرضها إسرائيل وفلسطينيون بلا رأس، إذن فلا بأس من استيراد “الرأس” من الخارج لتحقيق الإيهام الكامل بأن “التحرير” قد تم، فهذا قائد الثورة ورئيس منظمة التحرير ورمز استقلالية القرار الوطني المستقل قد “اختير” زعيماً للداخل، أي لما تبقى من فلسطين، وها هو “يدخل” فكأنما “العودة” قد تمت.
لا بأس أن “يدخل” واحد على هذا المستوى ولو على حساب الأربعة ملايين فلسطيني الذين سيجبرون على قطع علاقتهم (وذكرياتهم) بفلسطين، فالعائد له من قوة الرمز ما يعوض غياب الملايين!
ثم إن “الداخل” يختزل الخارج والداخل معاً، أليس هو العمل السري والكفاح المسلح والثورة معاً؟! أليس هو الفدائي والرئيس والمؤسسات جميعاً؟! أليس هو القطرية والعروبة والغسلام كافة؟! أليس هو الدول شرقاً وغرباً وبين بين مما كان يسمى بعدم الانحياز؟! أليس هو المال والسلاح والدبلوماسية والسياسة جميعاً؟!
إن أعظم “نصير” لهذا المشروع يتمثل في عجز “الآخرين” عن رفضه، فإذا ما رفضوه فعجزهم عن تقديم بديل أفضل، فإذا ما قدموا البديل نظرياً فعجزهم عن فرضه عملياً بقوة سلاحهم أو بقوة الموقف وحسب؟!
إن عجز الرافضين والمعترضين هو – حتى اللحظة – أقوى اسلحة الترويج لهذا المشروع المشبوه إلى حد السهولة في وصمه بالخيانة، مع الصعوبة البالغة في إقناع المسلمين به بتركه إلى الثورة التي استحالت وهماً، والنضال القومي الذيب اندثر كحقيقة سياسية ولم يتبق منه إلا ذكريات الماضي وتهويمات الحاضر حول مستقبل تبشر به القصيدة من غير أن يعمل له الشاعر.
إنه مشروع إسرائيلي. لا أحد يكابر في ذلك. لكن إسرائيل هي الأقوى والأقدر على الفرض خصوصاً إذا ما تعززت بالتأييد الأميركي الذي يوفر التغطية العربية المطلوبة لما يمكن أن يعتبر انحرافاً فلسطينياً.
من هو صاحب الحق في إعلان الرفض وتجريم القابلين باغتيال فلسطين لحساب بلدية مسخ في أريحا؟!
لا مرجعية عربية لكلمتها قوة القانون التي يمكن أن تتحول إلى حكم بالإعدام على المشروع وصاحبه والمساهم في اصطناعه والمروج له ومتبنيه والساعي إلى تنفيذه،
ولا مؤسسة فلسطينية لها من الهيبة والنفوذ المعنوي ما يجعل كلمتها هي الفاصلة، فما تدينه كخطأ يلعنه وأصحابه جميع الفلسطينيين وما تقره وفق قواعد مسلم بها يصبح هو الشرع والشريعة الذي يحرم على أي كان أن يخرج عليه،
وليس إلا بعدما ضمنت إسرائيل الموافقة الأميركية على الإذعان الفلسطيني حتى بدأت القيادة الفلسطينية محاولات إقناع من تضمن موافقتهم أو عدم اعتراضهم أو لا مبالاتهم أو مشترى صمتهم على هذا المشروع – الفخ والذي يراه العرب إنذاراً بفتنة فلسطينية أو بحرب أهلية عربية تبدأ فلسطينية – أردنية ثم تمتد إلى كل منزل يشترك في سكناه أي فلسطيني مع أي عربي آخر.
إن أريحا مرشحة لأن تكون العاصمة “العربية” للنظام العالمي الجديد.
فهذا النظام الأميركي في مختلف أنحاء الأرض هو إسرائيلي في الوطن العربي، وسيبقى إسرائيلياً طالما استمر الانقسام العربي إلى حد إلغاء الذات.
ولكأنما يقدم النظام العالمي الجديد مشروع “غزة – أريحا أولاً” كقاعدة لإعادة صياغة نمط جديد من “التضامن العربي”.
لقد انتهى زمن التضامن العربي ضد إسرائيل (والغرب) ومن أجل فلسطين،
وجاء زمن التضامن الفلسطيني مع الغرب (وإسرائيل) ضد العرب،
بل لعله زمن التضامن بين بعض العرب ومعظم الغرب ومعظم الإسرائيليين وبعض الفلسطينيين ضد “كل فلسطين” و”كل العرب”.
إنه الطور الجديد للمشروع الإسرائيلي – الغربي،
وبدل أن تكون فلسطين قاعدة الرفض العربي والقتال العربي لإسقاط هذا المشروع، صارت القيادة الفلسطينية قاعدة القبول بإنهاء “فلسطين التاريخ” فلسطين – الحلم القومي ومختزلة النضال العربي ورأس حربته، بذرائع لا يمكن إنكارها أو التخفيف من تأثيراتها بينها الخذلان العربي، والتخلي العربي وروح الانهزام السائدة على امتداد الوطن العربي.
وأول الهزيمة فلسطين
وآخر الهزيمة فلسطين،
ولعلنا الآن نخرج من الخامس من حزيران (1967) لندخل إلى السادس منه!

Exit mobile version