طلال سلمان

على الطريق أحزان لبنان العربية!

الأحزان لا تأتي فرادى،
أما الفرح فينبثق، مثل الفجر، من قلب الليل، وحيداً، لكن ضوعه ينتشر في الجهات الأربع حتى لا تبقى غصة قهر أو رنة أسى على الذي كان، أو تحسر على الذي استحال أن يكون.
وليل الأحزان العربية في لبنان طويل، بعد، والفجر بعيد، يدور في الأفق المسدود فلا يكاد يجد منفذاً لكي يأتينا فيغير دنيانا ويفتح الباب المرصود للغد الأفضل.
ولأن الفرح، مثل النصر، لا يجيء متسللاً بل يقتحم المستحيل ويهد الصعب فإنه يستاهل منا ما هو أكثر (وافعل وأجدى)، من الانتظار وصرف الوقت في التشكي من القدر الظالم ومن مغتصبي السلطة أو مغتصبي الأرض أو كليهما معاًز
الأحزان لا تأتي فرادى،
وليل الأحزان العربية في لبنان طويل، لكن أثقلها وطأة على النفس أن تغلب الأحقاد فيذهب معها بعض العرب إلى حد المقامرة بمصير الأمة كلها من أجل إزعاج حاكم أو نظام أو تنظيم أو بعض المنشقين عن التنظيم الأم!
وابأس ما يواجهه لبنان اليوم أن يتبرع بعض الأطراف العربية لتمويه طبيعة الصراع القائم فيه، وأن يغطوا حركة العدو الإسرائيلي وأهدافه (التي تمسهم جميعاً)، وأن “يمنحوا”، المتعاونين معه والمراهنين عليه وكذلك المستفيدين من مشروعه المدمر للمستقبل العربي (في لبنان وخارجه)، ما هو أفعل من صك البراءة، إنهم يسلمونهم زمام القيادة ويجعلونهم النموذج والقدوة الصالحة!
فالسكوت عن التقسيميين في لبنان، بأية ذريعة كانت، يتجاوز التغاضي عن جريمة قومية لا يجوز أن تمر بلا عقاب وغفران خطيئة مميتة لا تغتفر.
إنه تحريض مباشر للتقسيميين في غير لبنان لكي يتحركوا فيمزقوا أقطارهم، أما تحت ستار الاختلاف عن الأكثرية في الجنس أو في العراق أو في الدين، واما لمجرد الاختلاف في المذهب أو في الهوى أو في المزاج!
ففي كل قطرعربي أكثر من جعجع مستعد لأن يبيع أرضه أو دولته للشيطان، مقابل أن يكون وكيله المعتمد،
وفي كل قطر عربي أكثر من “عون” يحمل على كتفيه سيوفاً من صفيح يفترض أنها تكفي لكي تحمله إلى “النجوم”، ويحمل في نفسه شبقاً إلى السلطة يجعلها أهم في نظره من الوطن والشعب، فيطلبها ولو على جثتيهما معاً،
والمساعد على التقسيم في لبنان ليس مجرد كاذب ومنتحل صفة ومزور في ادعاء القومية والعروبة، ولكنه قبل ذلك كله عدو لوحدة قطره بالذات، ارضاً وشعباً ومؤسسات.
فالتقسيمي هنا تقسيمي في كل مكان، وهو في صف الإسرائيلي وفي خدمته ويعمل لحسابه، كائنة ما كانت المبررات والأعذار التي تبدأ بالأحقاد الشخصية أو الحزبية أو الفئوية وتنتهي بها.
الأحزان لا تأتي فرادى،
وهكذا فإن هذا المواطن اللبناني البائس يواجه، الآن، وفي اللحظة نفسها، الريح السموم التي تهب عليه وعلى جموع الفلسطينيين في مخيماتهم من جهات عدة: من بعبدا واليرزة، ومن “المجلس الحربي” في الكرنتينا، ومن محيط صيدا وصولاً إلى صور وما حولها،
هذا بالإضافة على الريح الصرصر التي يطلقها العدو الإسرائيلي مباشرة أو عبر جيش العميد لحد في الشريط الحدودي وصولاً إلى جزين،
أمعقول أن تتقاطع على الجسد النازف والمتهالك كل هذه السيوف؟!
أمعقول أن يجيء الترياق من عراق صدام حسين على شكل دبابات وأسلحة وذخائر وأموال لدعم المشروع التقسيمي في لبنان،
وأن يتلاقى جماعة ياسر عرفات، موضوعياً، مع الحليف الرسمي للعدو الإسرائيلي، أي “القوات اللبنانية”، فيتوافق الجميع على تناتش هذه المساحة المحدودة وتنتيفها،
كل ذلك تحت ستار العداء للدور السوري في لبنان؟!
وأين، بعد هذا كله، لبنان،
وهل إذا هزمت العروبة، عبر السوري ودوره، سيبقى بعد ذلك من مجال لانتصارها عبر النظام العراقي أو عبر الأوهام العرفاتية؟!
الأحزان لا تأتي فرادى،
ومضيّع لبنان هو من مضيع فلسطين،
أترانا ضيعنا كل الدروس المستفادة من مسلسل الحروب الأهلية العربية، في لبنان وعبره، حتى نشعل نارها من جديد؟!
وبين تلك الدروس التي يفترض أن تكون قد رسخت في وجداننا كما في خططنا، إن كان لنا خطط، أو في استراتيجيتنا إن كنا في مستوى رسم الاستراتيجيات:
*- يدخل العرب إلى فلسطين محررين، أو يدخل العدو الإسرائيلي إلى ديارهم جميعاً ليس فقط كمحتل ومستعمر – مستوطن، بل الأخطر: كنموذج وقدورة للفئات والعناصر المختلفة التي توحدها القومية وتشرذمها الكيانية فتتصهين بالضرورة.
*- يكون الفلسطيني، خارج فلسطين “عربياً”، أي “قومياً” ووحدوياً، أو تأخذه الشوفينية إلى “المثل” الإسرائيلي فيكتسب بعض ملامحه إضافة إلى عدائيته للعرب ومنطقه في مواجهتهم.
ومن دون القومية، وبالتضاد معها، يتحول الفلسطيني إلى وقود للحروب الأهلية العربية، في حين يحمله الكل مسؤولية إشعالها.
*- أما داخل فلسطين، وعبر المواجهة اليومية المباشرة للعدو، فإن الفلسطيني هو عنوان الثورة العربية ورايتها، حتى لو غلبت على شعاراته وخطابه السياسي نبرة كيانية مصدرها خيبة الأمل بأشقائه العرب.
*عبر الحرب الأهلية، تحول “الفلسطيني” في الأردن إلى “قبيلة” وتحول في لبنان إلى “طائفة”، وتحول في مصر إلى جالية أجنبية، واستعاد في أقطارأخرى صفة اللاجئ، حتى وهو يرصع كتفيه بالنجوم ويقدم على اسمه الرتب والألقاب الفخمة وعلى قضيته المخصصات أو الحياة “المكندشة”!
وهكذا فإن هذا “الفلسطيني” يتحول – إذا ما خسر قوميته – من محرض على الثورة والتغيير والتحرير، إلى عنصر إخلال بالمعادلات الداخلية للكيانات والأنظمة العربية الهشة في وجه إسرائيل، والقوية بكيانيتها في وجهه.
*- تتصل بهذا المنطق حقيقة بسيطة مفادها: إن الفلسطينيين بدوا، مع انفجار الحرب الأهلية، وكأنهم “جيش المسلمين، في لبنان”، وإنهم انتهوا فيه – وقبل أن تنتهي الحرب – وعبر الممارسة الفعلية لقيادة عرفات وكأنهم “رديف” للمتطرفين من الموارنة في حربهم ضد الحد الأدنى من الاصلاح والحقوق للمسلمين!
فلقد أخرج التوظيف السياسي الخاطئ للعامل الفلسطيني، المسلم في لبنان في قوميته ودفعه في اتجاه الكيانية،
كذلك فهو قد أخرج المسيحي من الوطنية ودفعه إلى حضن الطائفية،
وفي الحالتين فإن الأطراف جميعاً تكتسب ملامح “يهودية”!
فالذي يخرج من العروبة يخرج على فلسطين، ويخرج على لبنان،
وتافهة هي الحجة السخيفة التي يستخدمها بعض أنظمة العرب أو بعض منظمي منطق هذه الأنظمة من أن هذا التعاطف مع المسيحيين إنما يدخلهم إلى العروبة،
فليس على أرضية الكيان الصهيوني ومنطقه يكون التلاقي بين الإسلام والمسيحية، أو بين المسيحية والعروبة التي تفترض في نفسها القدرة على توحيد الجميع فوق أرض الوطن الواحد وفي أفياء الحلم الواحد بالمستقبل العربي الواحد.
والمتآمر على وحدة لبنان إنما يتآمر، سلفاً على النتائج السياسية العظيمة التي يكاد يحققها شعب فلسطين (العربي) بانتفاضته المجيدة.
فلبنان المقسم يحاصر الانتفاضة، كما يحاصر شعب لبنان، بين إسرائيليين، مما يحرم شعب فلسطين شرف النصر الذي استحقه، ويحرم شعب لبنان تجديد وحدته الوطنية وهي المهمة التي كاد ينجزها، مؤخراً، وبرغم كل الصعاب.
واللبنانيون كما الفلسطينيون محاصرون الآن بين فتنتين:
فتنة مغلفة بغلاف وطني في حين إنها تكاد تضيع فرصة تحرير وطن محتل،
والأخرى مموهة بادعاءات وطنية لإخفاء حقيقتها الطائفية، في حين إنها تهدد وطناً قائماً بالضياع والتفتت.
الأحزان لا تأتي فرادى،
وهكذا فإن شعب لبنان يتلاقى مرة أخرى مع أخوانه الفلسطينيين عبر الأحزان وفي بحرها البلاد ضفاف،
فمغتصب السلطة هنا يكاد يضيع وحدة الأرض والشعب،
والمستميت من أجل السلطة، أي سلطة، في القيادة الفلسطينية يكاد يتسبب في خسارة شعب فلسطين لأرضه كلها ولوحدته الوطنية مقابل عرش وهمي في شرقي صيدا.
إنه عصر الجنرالات المهزومين،
وسمير جعجع يستطيع الادعاء الآن إنه “الأول” بينهم جميعاً، فهو قد خسر كل المعارك ولم “يربح” إلا المعركة ضد وحدة لبنان، فلما جاء أوان القطاف سرق “نصره” اليتيم ميشال عون الذي سيكتشف يوماً بعد يوم إن “الإسرائيلي” هو الرابح الوحيد، وإنه إنما عمل لحسابه، بوعي أو بغير وعي،
… وليس بهدايا الدبابات والذخائر والأسلحة والأموال للتقسيميين في لبنان يتعزز دور النظام العراقي في توحيد العرب تحت راية بسمارك الجديد،
… وسيظل لبنان عربياً، وسيظل يقاتل المحتل الإسرائيلي في أرضه، ويحول دون وصول عملائه وأعوانه ومرتزقته إلى سدة السلطة فيه مرة أخرى،
وسيظل شعب فلسطين عربياً، وسيظل يقاوم ضد تهويد أرضه وضد “صهينته”، ويمنع المفرطين والمساومين من بيع حلمه في دولة مستقلة بكراس وهمية في حكومة تبيع الأرض سلفاً مقابل ألقاب الرئاسة والفخامة والقيادة الجامعة المانعة للبر والبحر والجو، السياسة والاقتصاد والعسكر، التربية والثقافة والدبلوماسية وسائر الشؤون!
… وبالعروبة، والمزيد من العروبة، سيكون النصر على الذين ينحرون الهوية القومية للبنان الجريح ولفلسطين المنبعثة الآن كما الفرح، كما الفجر الذي يقتحم المستحيل ويهد الصعب ويصنع الغد الأفضل.

Exit mobile version