طلال سلمان

على الطريق أبو جهاد الداخل…

لم يكن البهو شديد الازدحام، لكننا لم ننتبه للشابين المتمايزي السمات والملابس إلا وقد وقفا أمامنا مباشرة يستأذنان في قطع خلوة مجموعتنا، وغالبيتها من الصحافيين. قال الشاب النحيل بدماثة يغلفها الخجل:
-من الضروري أن نتحدث إليك، فهل تسمح؟!
قام الآخرون، ومددت يدي أصافح الشابين متقبلاً، بغير نقاشن من كل منهما الاسم الأول الذي قدم به نفسه. “كمال”، قال الشاب الطويل الممتلئ الجسم والأسمر البشرة والحاج النظرات والتعبيرات. أما الآخر الذي ظل خجولاً طوال الجلسة، بغير أن يمنعه الخجل من إعطاء أحكام قطعية في مسائل مصيرية فقد تلفظ باسمه هامساً: “خليل”.
كان علي أن اكتشف بنفسي وعبر زملائي ممن لهم علاقات سابقة بالشابين إنهما كمال عدوان وخليل الوزير (أبو جهاد).
-نحن من فتح، قال كمال…
وأضاف خليل بصوته المنخفض: – نعرف إنك مختلف معنا، فكرياً وسياسياً، وترانا أقرب إلى “الأخوان المسلمين” أو “التحريريين” وتحاسبنا انطلاقاً من اشتباهك في منطلقات أولئك، لكن الحوار ضروري لكي نعرف بعضنا حقاً، فنحن متفقون، في النهاية، على هدف التحرير.
على مدى ثلاث ساعات تناقشنا، بحدة أحياناً، لاسيما حين “يهجم” كمال، وبهدوء مثير مع رجل راسخ الاقتناع بما يقوله حتى وهو يعرف إن منطقه مرفوض من الآخرين.
قال “خليل” : – أجل، إنننا نريد أن نورط الأنظمة العربية جميعاً. حتام يجب أن يظل علينا أن نقبل حجتهم السخيفة بأنهم غير جاهزين لمحاربة إسرائيل؟! يدعون إن الأمر يحتاج إلى أعداد طويل، لكنهم لا يعدون شيئاً. ومهمتنا أن نجبرهم على الأعداد. سنضرب إسرائيل فتضربهم وهكذا يضطرون إلى دخول المعركة.
وقال “كمال” : – إنهم يحكمون باسم فلسطين، ولكنهم لا يفعلون إلا خيانة فلسطين، ثم يتهموننا نحن، أبناء فلسطين، بأننا بعنا أرضنا. لقد بلغنا سن الرشد، وليس لأحد حق الوصاية علينا، وسننقل النار إلى ديارهم، فليدافعوا عن رؤوسهم وكراسيهم ففلسطين أغلى منهم جميعاً، أغلى من العرب جميعاً.
وقال “خليل”: – لقد يئسنا منهم. طال انتظارنا لهم. نحن في المخيمات واسمنا “اللاجئون”، وهم في القصور وأمجاد القيادة والسيادة لا يحاربون. من سيعيدنا إلى ديارنا؟! لقد أخرجنا العرب منها. قالوا لنا: تنحوا جنباً واتركوا لنا القتال، وخلال أيام سنهزم العصابات الصهيونية فتعودون! وها هي السنوات تمر وهم لا يفعلون شيئاً إلا الاتجار بقضيتنا. لهذا قررنا أن نتولى قضيتنا بأيدينا. وطالما إنهم لا يذهبون إلى الحرب فسنأتيهم بها إلى حيث هم.
قال “كمال” : – كلما سألناهم التحرير وجدناهم مشغولين بأمر آخر، تارة بالوحدة، وتارة بالاشتراكية، وتارة بمقارعة الإمبريالية، نحن لا يهمنا إلا فلسطين.
وقال “خليل” : – لا وحدة ولا اشتراكية ولا تقدم قبل فلسطين أو على حساب فلسطين.
وقال “كمال”: – أما منظمة التحرير التي اصطنعوها فهي أداتهم لتصفية القضية. لقد أتى جمال عبد الناصر برجله أحمد الشقيري ليقول للناس إنه يعمل على التحرير، لكن هذا دجل سياسي لا أكثر… فليعد الشقيري إلى حيث يخدم السعوديين في الأمم المتحدة.
وقال “خليل”: – للشقيري تاريخه، لكن أسلوبنا مختلف. إنه منهم، ونحن لسنا منهم. أكاد أٌول إننا ضدهم. بالأحرى هو ضدنا. إن عبد الناصر يساعد جماعة القوميين العرب والشقيري ويرانا حلفاء لأعدائه المصريين (الأخوان). وهو حتى اليوم لا يعترف بنا. كل ما فعله إنه أوكل مهمة الاتصال بنا لبعض ضباط المخابرات.
واحتد “كمال”: – إنها أنظمة مخابرات. إنهم لا يعترفون بالشعب. وهم ضد الكفاح المسلح.
وانطلق “خليل” يشرح نظرية الكفاح المسلح: – هاكم النموذج الجزائري، وهناك النموذج العظيم الآخر في الصين الشعبية، نموذج ماوتسي تونغ. حرب الشعب، إنها معركة تحرير، وعلى الشعب كله، أن يشارك فيها. نعرف إنها معركة صعبة. نعرف إننا نفتقد الحلفاءز نعرف إن القوى الكبرى فيالعالم لا تقر منطقنا وأسلوبنا. ولكن لا طريق آخر أمامنا. إن ظللنا نعتمد على عدالة المجتمع الدولي لن نعود إلى أرضنا قط. علينا أن نجبر العالم على الاعتراف بنا وبحقنا في أرضنا.
وخطب “كمال”: – فلسطين حية، برغم إننا لاجئون. فلسطين لا تنام ولا تموت.
فتح “خليل” حقيبة جلدية رقيقة وأخذ يخرج منها كتباً وكراسات وبيانات ونشرات عليها جميعاً شعار “العاصفة” كانت مثله: ضئيلة الحجم لكنها غنية المحتوى وبسيطة المظهر.
ومرت سنة قبل أن نلتقي مجدداً. لكن “خليل” في المرة الثانية بقي صامتاً، فإذا ما تنبه إلى ملاحظة همسها في أذن “كبير” الجلسة: أبو يوسف النجار.
وفي اللقاء الثالث، بعد سنة أخرى، كان الموضوع الوحيد لكلام “خليل” هو إقبال الشباب على معسكرات تدريب الحركة في الأردن.
وتكررت اللقاءات، عابرة في معظمها، أو عابر هو وجود “خليل” فيها حتى التقيته – رسمياً – في شباط 1969 وبوصفه “أبو جهاد” قائد العاصفة – الذراع العسكري لحركة “فتح”.
كانت “فتح” قد ربحت معركة منظمة التحرير فتسنمت سدة الرئاسات جميعاً: العمل السياسي، العمل الدبلوماسي، العمل العسكرين وباتت – عملياً – قيادة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
وفي مزرعة قريبة من مباني “جامعة الحسين” في الأردن، كان اللقاء، ونحن في طريقنا إلى كهف قيادة “الختيار” ياسر عرفات في السلط، غير بعيد عن خط النار – الحدود والمعبر: الأغوار ومجرى نهر الأردن.
*قال “أبو جهاد” : – نحن ما زلنا على ما كنا عليه. لم نغادر منطقنا ولا تحولنا عنه، وها هي الأيام تثبت صحة منطلقاتنا. لم يذهب العرب إلى الحرب فذهبت إسرائيل إليهم وأخذتهم إليها، ومن الطبيعي والحالة هذه أن تهزمهم. وهم الآن مهزومون ومسلمون بالهزيمة أما نحن فما زلنا نتابع القتال من أجل التحرير. لا بديل للبندقية. العمل السياسي لا يؤدي إلا إلى التنازل. حسناً، هم دول ولا بأس أن يحاولوا، أما نحن فلا خيار لنا إلا القتال. القتال سيأتينا باعتراف العالم. أما العرب فلا نريد منهم شيئاً. فقط فليحموا أنفسهم. إن شعب فلسطين قد علمهم وسيعلمهم أكثر. لسنا خونة ولا باعة أوطان. ثم إننا أخبر باليهود منهم. لا يفهم اليهود إلا لغة القوة.
*وقال “أبو جهاد”: – أنا لا أتعاطى التنظير. لا علاقة لي بالصراعات الأيديولوجية. كلكم تصنفوننا من أهل اليمين. لترجئ هذا الأمر إلى ما بعد التحرير. كل من يريد القتال فأهلاً وسهلاً به، بغض النظر عن انتمائه العقائدي، ما يهم شعبنا هو أن نحرر الأرض، أن نعود. وشعبنا مؤمن، لكنه غير متعصب ولا يعرف الطائفية. كل حزب يمثل فئة، لكن فتح تمثل مجموع الشعب، وفتح تتسع للجميع، وفي فتح يساريون وناصريون وقوميون وبورجوازيون ورجعيون، ربما، بين رفاقنا من كان بعثياً ومن هو قريب إلى الشيوعيين، لكن الجميع فتح، الآن.
*وقال “أبو جهاد”: – العرب؟! كما يعاملوننا نعاملهم، البعض يعطينا ولا يسأل من نحن، والبعض يريد أن يأخذ منا. البعض يعطينا حتى نسكت عنه، والبعض يريدنا أن نعطيه ليسكت عنا. لا يهم، صرنا نعرفهم ويعرفوننا. لا أحد يستطيع إلغاءنا. لقد وصلنا إلى ضمير الشعب. كلهم يزعمون إنهم قادة ثورات، لكن الثورة هنا. نحن الثورة. لا مشكلة مع سوريا. إنهم يتفهمون منطقنا وموقفنا، وكانوا أول من ساعدنا. وفي الأردن لا يحبوننا ولا يقبلون منطقنا، لكنهم لا يملكون قرار طردنا. إن أكثرية الشعب هنا فلسطينية. ونحن لا نريد معركة مع الملك، لقد تركنا له الحكم، فليترك لنا أن نعمل لتحرير ما خسره هو والحكم العرب الآخرون من أرضنا. أما عبد الناصر فهو يتعامل معنا بحذر. لا هو يحبنا ولا نحن نحبه، لكننا لا نسعى إلى الصدام معه. محاسبته. إذا ما كان مخطئاً، من مسؤولية شتعبه. لا بد أن أحداً ما مسؤول عن الهزيمة.
*وقال “أبو جهاد” : – لا، لم تصنعنا الهزيمة، لكن الهزيمة عززت منطقنا وأكدت صحة منطلقاتنا. كلهم سقطوا إلا شعب فلسطين. كلهم سلموا بقرار مجلس الأمن إلا شعب فلسطين. لقد خسرنا من قبل لكننا لم نسلم، أما هم فسلموا.
في لبنان كان لجلسات الحوار مع “أبي جهاد” نكهة أخرى. كانت المرارة قد احتلت مساحة واسعة في اللغة، لكن الإيمان بصحة المنطق والموقف كان هو الطاغي. ربما بقرار. كان التسليم، مرة واحدة، بخطأ المنطق أو المنطق يؤدي إلى الاستقالة أو الانتحار، وكلاهما ممنوع في الثورة.
وعبر الحوار كانت تتأكد الملامح التي عرفها الجميع في”أبي جهاد”:
** هو “فتح” . غيره قد يجد نفسه “مع” أو “ضد”. أما هو فبلا تخوم. الكل فيه، بهذه النسبة أو تلك، يختلف أبو عمار وابو أياد، أبو عمار وأبو السعيد. أبو عمار وأبو صالح. أبو عمار والجميع، ويظل أبو جهاد حيث هو، حتى يعود الجميع ليتلاقوا عنده.
كان مستحيلاً عليه أن يختلف مع “أبي عمار” أو يتايز عنه. صورة القيادة (والقائد) لا يجوز أن تهتز. وهو بالذات المسؤول عن ذلك. هو عنصر الثبات، وكبح الجماح والحد من خطر الانزلاق يكون بالثبات. النقد يضر ولا يفيد. والمعارضة ترف لا يملكه الباحث عن هوية واعتراف بوجوده ذاته.
** وهو “الداخل”’، يعرف بالسليقة، كما بالتجربة، إن الداخل هو مصدر القوة، بل الحياة. الخارج ملجأ وملاذ ومنطلق للعودة. وقد تفرض الظروف شيئاً من اللعب، من المناورة، من التكتكة في الخارج، أما الداخل فهو القضية – الداخل هو العمل وهو الجدية وهو المواجهة الحقيقية – هو ميدان إثبات الذات.
** وهو “المقاتل”، وبهذا المعنى فهو “اللاسياسي” بين جمهور عريض عن الساسة المحترفين والعقائديين الشطار في التنظير والتنظيم. وبرغم إنه استولد أو قبل أو رعى عدداً من التنظيمات المكملة أو الموازية، الظاهرة والخفية، المتعددة المشارب فكرياً وسياسياً، إلا أنه كان يتعامل معها بوصفها ضرورات قتالية أو عمليات استيعابية ومحاولات توفيقية لتأمين الحشد المطلوب، أكثر منها ابتكارات سياسية وانحيازات لهذه البدعة أو تلك من أشكال التعبير عن الموجات الفكرية الواردة من أوروبا وسائر أنحاء أوروبا المضطربة، أواخر الستينات، بالتيارات والاتجاهات الجديدة والمجددة في الماركسية أو المنقلبة على الثوابت، يمينية كانت أم يسارية.
ثم إنه “الفلسطيني” الذي يجتمع فيه الحاج أمين الحسيني وعبد القادر الحسيني وعز الدين القسام وأحمد الشقيري وياسر عرفات وجورج حبش وأحمد جبريل وحسن سلامة وأبو علي أياد.
ومع إنه في التصنيفات السائدة من “أهل اليمين” فهو “اليميني” الذي تخصص في “يسار” الخارج، وقاد إلى حد كبير، “يسار الداخل”، فهو كان “الرابط” مع سوريا 23 شباط المندفعة يساراً إلى ما بعد المحيط المتجمد الشمالي، وهو مؤسس العلاقة مع جزائر هواري بومدين التي تدخن سيكار فيديل كاسترو الكوبي، وتأخذ السلاح من السوفيات وتعطي الغاز والنفط للغرب.
الأهم إنه “مكتشف” الصين في فتح، وهو قد اكتشفها بعد أن شجرت الحرب بينها وبين رائدها في الماركسية – اللينينة الاتحاد السوفياتي. أما فلسطينياً فشرف اكتشاف الصين معقود اللواء لمؤسس منظمة التحرير المغفور له أحمد الشقيري.
وهو قد حافظ على العلاقة مع الجزائر والصين حتى يومه الأخير، أما سوريا فقد اختلت علاقته بها بعدما غاب جماعة 23 شباط (وبعض نجومهم قد استقر، أخيراً، في الجزائر لا يغادرها).
وهو أحد الذين اكتووا بنار التجربة في لبنان، وبغض النظر عن مدى الموافقة أو الاعتراف على الأساليب فهو ظل يحاول أن يحد من الخسائر حتى اليوم الأخير:
-نحن هنا بالاضطرار. لم يكن خيارنا أن نجيء. مكاننا الطبيعي في الأردن، لكن الكل تآمرعلينا، وسقطنا في الخطأ بدورنا فأخرجنا. تلك الخسارة لا تعوض. ولقد فرض علينا أن نصبح طرفاً في الحرب الأهلية وتورطنا فلم يعد بيدنا قرار الخروج منها”.
كانت البداية محاولة توريط الآخرين، وكانت النتيجة إن الآخرين ورطوا “أبا جهاد” ورفاقه إلى حد إنهم باتوا وكأنهم أسرى دائمون لحروب أهلية عربية تبدأ ولا تنتهي، وتلتهم باستمرار من القضية ومن رافعي رايتها والمبتعدين بها عن العرب لحمايتها منهم.
ولكن إلى أين المفر؟!
لا بغداد تغني عن الأغوار، ولا هي معوضة عن الشعور بالنفي، ولا العودة إلى عمان ممكنة مهما بلغ التساهل في الشروط، والسياسة قد حفرت خندقاً من الصعب ردمه مع دمشق، والذاهب إلى تونس “مهاجر” أكثر منه “مهجر”، والجزائر مفيدة جداً إذا كنت في عمان ولكنها بعيدة جداً وغريبة إذا كنت فيها وهدفك في فلسطين،
أما الجزيرة والخليج فمن أعمال “أبي عمار” و”أبي أياد” و”أبي اللطف”، وهي دارإقامة أبي السعيد وأخوانه، ولكنها ليست على جدول أعمال “أبي جهاد” إلا في الحالات الاضطرارية التي تقتضي وجوده لاكتمال صورة “فتح” الناقصة حتماً، من دونه حتى لو حضر الآخرون جميعاً.
في آخر مكالمة معه في تونس قبل حوال يالشهرين قال “أبو جهاد”:
-أنتم في “السفير” مثلي، لم تتركوا الخلافات والصراعات الداخلية والعربية تأخذكم بعيداً عن فلسطين. ظلت القضية واضحة وحاضرة أمامكم. لي طبعاً بعض الملاحظات لكن “السفير” أثبتت مرة أخرى إنها جريدة القضية، ألم أقل لكم في السابق: لنحررها أولاً ثم نبحث أمر الايديولوجيا؟! وها هو شعبنا العظيم يثبت إن فلسطين هي العقيدة. هي الأرض والقضية. كل فلسطين في الانتفاضة، كل شعب فلسطين، الشيوخ والعجائز، الصبايا والشبان، والفتية والأطفال. وكل الاتجاهات والتيارات. لا تردوا على المصنفين. المهم الانتفاضة، سأعطيك أرقام هواتف المناضلين الأماجد في الضفة والقطاع، سجل عندك…
كانت الأسماء حاضرة في ذهنه حضور فلسطين. الاتحادات المهنية، رؤساء البلديات. أساتذة الجامعات. رجال الدين والوجهاء. بعض القيادات الطلابية والعديد من الصحافيين.
قال أبو جهاد: – تحدثوا إلى الجميع. إنهم جميعاً في الانتفاضة. لا أحد خارج الانتفاضة.. لا أحد. لا تأبهوا لحكايات الخلاف والاختلاف بين الداخل والخارج – هذه مسائل يحلها العمل نفسه. هذا هو شعبنا العظيم! كانوا يتساءلون: أين الفلسطينيون؟! أما اليوم فيتساءلون أين العرب؟!
وهل قدر علينا، أيها المجاهد الشهيد، أن نصل في مواعيد مختلفة؟! يصل واحدنا فلا يجد الآخرين، فيضرب وحده، ثم يأتي الثاني متأخراً فيضرب بدوره ويكون الدور على الثالث؟!
متى يكون وصول الجميع، إلى “الرملة”، في وقت واحد أيها المقاتل وحيداً، برغم إنك تقاتل باسم الأمة، والمقتول وحيداً، والأمة مقتولة فيك؟!
متى يصل الكل معاً وفي وقت واحد إلى الميدان الواحد لمقاتلة العدو الواحد فيكون النصر الذي سعيت إليه طويلاً وسقطت دونه في أرض الشتات البعيدة؟!
لا عزاء. يلتفت واحدنا إلى الأخر بعيون منطفئة. يلجمنا خرس الحزن فلا نقول من الحقيقة إلا ما يتناسب مع جلل الحدث.
هل سقط المقاوم الفلسطيني الأخير في الخارج ومن الخارج؟!
أم تراه عاد ليأخذ موقعه الطبيعي في الداخل ومع الداخل؟!
هل هاجرت فلسطين إلى تونس أم إن الدم سيعيد تونس، والأقطار الأخرى البعيدة، إلى موقعها الطبيعي في النضال، أو في”الجهاد” من أجل فلسطين و”أبي جهاد” فيها؟!
هل ذهب الإسرائيليون إلى تونس ليقتلوا “اللاجئ” إليها، أم إنهم قتلوها على باب منفاه غير المرحوس فيها؟! وماذا ينفعها “الزين” إذا كان قد قصر حتى عن القيام بالواجب الذي تحمله – أفضل وأكفأ – العاجز والمخرف الحبيب بورقيبة؟!
وهل هذا لا يعني مصر المنكسة الرأس بالعلم الإسرائيلي يرفرف في سماء عاصمتها، وبالحكم العاجز عن تحريرها فكيف بتحرير فلسطين؟!
وهل ليبيا التي كانت كلمة السر لثورتها في الفاتح من سبتمبر 1969 “القدس” تستطيع الاطمئنان إلى سلامة أرضها وشعبها ومستقبلها والذراع الإسرائيلية طويلة إلى هذا الحد، وقوية إلى هذا الحد، تضرب متى شاءت وأنى شاءت فلا يكون عقاب “وتعود مجموعة القتلة إلى قاعدتها” مصطحبة معها سلامتها وسلامة القطر المضروب؟!
وهل الجزائر التي ضربتها إسرائيل في عنابة ستظل تنتظرالضربة التالية، أم تراها ستجيء إلى قتال إسرائيل، بقرار وقائي أكثر منه هجومياً، حتى يكون غد لائق بكرامة المليون شهيد؟!
وهل سيظل ملك المغرب مشرعاً أبوابه لشمعون بيريز وسائر الصهاينة لينجز المهمة التاريخية في التوفيق بين العقل الإسرائيلي والثري العربي الذي لا يعرف كيف يوظف ماله وكيف يحمي أرضه وكيف يشق طريقه إلى المستقبل وروح العصر؟!
-نحن منذورون للموت، يا أخي، كان يفترض أن نموت في الأغوار، في عمان، في جرش وعجلون، في بيروت، في الجنوب الذي تعلمنا منه الكثير، وقد نموت في أي يوم، لكن شعب فلسطين لن يموت وسيظل يقاتل حتى يستعيد أرضه وكرامته وحقه في الوجود.
*- موتنا مؤجل، يا أخي، حتى يقضي الله امره. وكل يوم آخر نعيشه هو مكسب. المهم ألا نعود فنضيعه بلا عمل. بلا إنجاز على طريق التحرير. إن عدونا قوي جداً، لكن هذا يعني أيضاً إننا بقرار قتاله أقوى منه. فنحن لا نخاف قوته.
*- الحمد لله، إن الانتفاضة تقرب المسافات بيننا وبين أخوتنا العرب، إنها تساعد على تضييق مساحة الخلاف. لقد كانت أولى ثمارها إنها أوقفت تدهور العلاقات مع الأخوة في دمشق، وأظن إننا اقتربنا من استعادة جو التفاهم والثقة.
*- لا تصدقوا إن الانتفاضة ظاهرة عارضة، صدقني، يا أخي، إن الانتفاضة ستستمر وستتصاعد وسيتعاظم مدها ولن تتوقف، واسقطوا كل ما تسمعونه عن حكومة المنفى وعن الاتصالات الجانبية وعن المساومات. الانتفاضة هي قيادتنا جميعاً، ونحن فيها جميعاً، ومؤكد إننا سنتعلم منها. ألم تقولوا معي دائماً إن الشعب هو المعلم الأكبر والأعظم؟!
لقد صمت الآن أبو جهاد.
اصمته الحزن لأن يكون تعرض، بعد خمس عشرة سنة، للتجربة القاسية ذاتها التي أودت برفاقه محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، فأودت به هو أيضاً في وحدته، في منفاه العربي البعيد عن فلسطين العربية.
لقد أصمته القهر: لاهم يقاتلونها، ولا هم يحمونه منها حين تجيء لتقتله (وتقتلهم)،
وربما اصمته الخطأ. كان عليه أن يحترس أكثر. كان عليه أن يحسب لعدوه القوي حساباً لا علاقة له بالمعنويات بل بالمحسوس والملموس.
… لكنه ربما استعجل العودة إلى الرملة، حيث ينتظره الكثير من العمل في الانتفاضة التي قالت – بالدم – كم هو فيها ومعها ومنها.
وبعد هذا فليكن الصمت احتراماً لحركة الكفاح المسلح المجللة الآن بالسواد تنتظر أن يجدد أطفال الأرض المحتلة شبابها بالثورة الآتية من قلب فلسطين التي تكون بالثورة، وبأمتها العربية، أو لا تكون أبداً.

Exit mobile version