طلال سلمان

على الطريق أبعد من الحدث الجزائري..

طغت المخاوف بحيث غطت على دلالات الحدث الجزائري الخطير وكادت تذهب ببريق التجربة الديموقراطية الأولى باعتماد التعددية السياسية والحزبية في الانتخابات النيابية،
وبين هذه المخاوف ما هو ناجم عن خيبة بعض التوقعات أو عن التأخر في اكتشاف طبيعة التحولات التي شهدها المجتمع الجزائري خلال السنوات الأخيرة، مع وقفة مطولة أمام طبيعة رد فعله على “عاصفة الصحراء” التي ذهبت بالعراق من دون أن تحرر الجزيرة والخليج،
نبينها غربة بعض دعاة “العلمانية” عن واقع مجتمعاتهم العربية، إلى حد أن يدهشهم انتصار من يسمون بـ “الإسلاميين” في انتخابات تشريعية تجري في بلاد كل مقترعيها من “المسلمين”، وكذلك كل المرشحينز
فكل جزائري “مسلم”. تلك هويته التي لا تحببها العروبة، وهو حتى حين يصف نفسه بـ “العربي” يضيف فوراً ومن غير عقد “ومسلم والحمد لله”.
قبل “جبهة الإنقاذ” كان الجزائريون “مسلمين”، ففي “جبهة التحرير الوطني” كانوا وما زالوا “مسلمين”، وهم حين “هزوا السلاح” و”طلعوا الجبل” مفجرين الثورة المباركة كانوا “مسلمين” يجاهدون ويقاتلون لتحرير دار الإسلام من استعمار “الروم”.
في الذاكرة الجزائرية كل عربي مسلم وكل مسيحي “روم” وبالتالي فهو غريب وغربي، وحتى حين سلم الجزائريون مكرهين بحقيقة وجود عرب “مسيحيين” ظلوا يعتبرونهم “مسلمين” بنسبة أو بأخرى، فهم أولاً ليسوا “أرواما” ثم إنهم شركاء في التاريخ والحضارة والجغرافيا والحياة، لم يأتوا عبر “بحر الروم” غزاة في حملة جديدة من الحملات الصليبيةز
وجمهور “جبهة الإنقاذ” الحالي هو هو جمهور “جبهة التحرير الوطني” من قبل، وحين كانت هذه الجبهة هي قيادة التصدي لقتال “الروم” محتلي الأرض في الداخل ومضطهدي “المهاجرين المسلمين” العاملين بقوت عيالهم في فرنسا.
وما قامت جبهة الإنقاذ أصلاً ولا هي صارت حقيقة سياسية كبرى في الواقع الجزائري إلا بقدر ما تراجعت جبهة التحرير الوطني وفقدت شرعيتها ووهجها ومصداقيتها وقدرتها على التغيير: تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم السياسي.
ولم يكن ممكناً في مجتمع، كالجزائر، أن يكون الوريث حزباً سيء السمعة الوطنية (خلال الثورة) ومتهماً بنقص في إسلامه كالشيوعيين، ولا كان ممكناً أن يكون البديل غربياً، على وجه العموم، في عقيدته وبرنامجه ومسلكه وصولاً إلى الملبس الشخصي.
على إن مصدر الخطر الفعلي على الجزائر خصوصاً، وعلى المنطقة عموماً، هو أن تعطى لهذه “التعددية”، المروج لها غربياً وكأنها الحل السحري والفوري للمشكلات جميعاً، أبعاد تتجاوز السياسة لتمس النسيج الاجتماعي للشعب والأمة.
فلقد قسّم “الخبراء الغربيون” و”المراقبون الشرقيون” و”الأوساط العربية” الجزائريين – من خلال الانتخابات – إلى “إسلاميين” و”آخرين” وإلى “بربر” و”قوميات أخرى”، وساعدهم على ذلك إن بعض المرشحين قدموا أنفسهم – بطريقة استفزازية – عبر تصنيفات تقسيمية تتجاوز السياسة إلى العرق أو العقيدة الدينية ذاتها.
هكذا تمهد الأرض لحرب أهلية، تحت رايات الديموقراطية الغربية والإسلام العربي، وهي حرب تبدأ أن بدأت – لا سمح الله – في الجزائر ولكنها تمتد إلى آخر بقعة من أراضي العرب والمسلمين، والعياد بالله.
ومن قبل كان الغرب (ومعه بعض العرب) قد قسّم العراق إلى “شيعة” و”أكراد” و”نظام سني حاكم”، فدمغ الانتفاضات الشعبية في الجنوب والشمال وسائر أنحاء أرض الرافدين المنكوبة بمغامرة حاكمها الحمقاء ثم بهزيمته النكراء، بالمذهبية والعنصرية تاركاً لصدام حسين شرف الظهور بمظهر “بطل الوحدة الوطنية”!!
أما فلسطين فقد قسّم شعبها إلى “أهل داخل” و”أهل خارج” و”أهل شتات”، لما لم تنجح اللعبة الطائفية أو الجهوية أو لعبة الصراع العقائدي والسياسي والتنظيميز
وأما أهل الجزيرة والخليج الذين كان العمل جارياً لفصلهم عن سائر أهلهم في المشرق والمغرب وتمييزهم بهوية ذهبية مؤقتة، فقد تركز الجهد من بعد على التعامل معهم وكأنهم أبناء “قومية” أخرى ما يربطهم بـ “العرب” هو هو ما يربطهم بـ “الإسلائيليين” مثلاً، من “صلات جوار”، أما ما يربطهم بالصديق الأميركي فهو أعظم وأجل وأبقى بما لا يقاس.
وإذا ما أغفل ذكر ما جرى للبنان وفيه، فإن صورة العرب كما بدت في مدريد – بغض النظر عن الظروف التي أرغمتهم على الذهاب إليها – ثم في واشنطن كانت فاضحة لما يراد لهم وبهم في مستقبلهمز
لقد تجاوز الغرب حقيقة “الأمة العربية” ونجح في إقناع الكثير من حكامها بأنها “غير موجودة”، ولم يكن بعضهم بحاجة إلى فصاحة أو حجج دامغة أو بينات قاطعة للاقتناع بمثل هذا الأمر المريح،
وها هو الآن يعمل على تقديم كل بلد عربي وكأنه بؤرة حرب أهلية محتملة بين عناصر وأعراق وقوميات وأديان شتى، وإن الغرب وحده هو القادر على حماية وحدة البلد المعني وبمن يشاء من قواه السياسية سواء أكانت في الحكم أم في المعارضة.
كل عربي اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة: قوميته في جانب ودينه في جانب آخر، عرقه في جانب ولسانه في جانب آخر، ثم يجيء دور معتقده السياسي فإذا الفوضى عارمة، وإذا هو يقاتل ضد ذاته… حتى الابادة!
هي البداية في الجزائر، والآتي أعظم في المغرب والمشرق،
مع التذكير مرة أخرى بأنه لم يكن ممكناً أن يفوز إلا المسلمون في انتخابات تشريعية تجري في بلد كل ناخبيه من المسلمين وكذلك كل الناخبين.
… ومع التذكير بالسؤال الملح والمشروع: هل هكذا يكون الرد على “الحملة الصليبية الجديدة” التي بدأت قبل “عاصفة الصحراء” بزمن بعيد، والتي لن تنتهي بانتهاء المفاوضات لتسوية ما لا يسوى: الصراع العربي – الإسرائيلي على الأرض والتاريخ والوجود؟!

Exit mobile version