طلال سلمان

على الطريق آخر سنوات الحرب أصعب سنوات السلام

كل عام وأنتم بخير: ها هي الوردة قد فتقت أكمامها وأطلت، أخيراً، ندية كخد طفل عفي، وانتشر عطرها يخترق المسام ويجدد الشوق للحياة، برغم الزمهرير الشمال الثلجية ورائحة البارود التي تظللنا كالضباب اللزج.
… وها قد انفتحت ، أخيراً، كوة في قلب النفق المظلم، واقتحمت عتمته الوحشية حزمة من أشعة الشمس، معززة بشيء من الهواء النقي، فأعطتنا مع نهاية العام المحن السوداء وعدا مضيئاً بإمكان الوصول إلى مخرج من هذه الحرب التي ما فتئت تتمدد وتستطيل ملتهمة أعمارنا وأحلامنا والأمنيات الغوالي بحياة كريمة في وطن حقيقي سليم البنية، صحيح الانتماء شرعي الأبوة لأبنائه المتساوين جميعاً فيه.
… وها نحن نقف على عتبة 1986 ونحن نعرف، تقريباً، ولأول مرة إنها ستكون آخر سنوات الحرب وأصعب سنوات السلام الآتي بعد طول انتظار شارفنا فيه – نحن الذين نجونا من القصف والقنص والخطف – على الموت يأساً وكمداً واحتراقاً في أتون الاتفاقات التي لا تعيش والتجاوزات التي لا تتوقف، والاشتباكات “الأخوية” وصراعات غيلان الطوائف والمذاهب على الأحياء والزواريب وكازينوهات القمار والثروات الحرام.
فأهم ما في الاتفاق الثلاثي الذي وقع يوم السبت الماضي في دمشق، وبرعايتها الكاملة، بين حركة “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي و”القوات اللبنانية” هو إقرار هذه الأطراف جميعاً بانتفاء ضرورة الحرب كوسيلة لا بد منها ، إن لتوفير الضمانات للخائفين أو لتحقيق مطالب المغبونين.
ومؤكد أنه ما كان ممكناً الوصول إلى مثل هذا الإقرار العلني والموثق والملزم بغير ضمانة سوريا، التي نابت عن العرب جميعاً وعوضت غياب الغائبين منهم، وبغير توظيفها لتأثيرها الحاسم على مجريات الصراع لمصلحة “الحل الوطني” في لبنان، وبين شروطه حسم المسائل المختلف عليها بالتوافق وليس بالاحتكام إلى السلاح الذي يجر إلى مهالك وطنية وقومية كما أثبتت وقائع الحرب المفتوحة منذ أحد عشر عاماً ونيف.
لا ضرورة للحرب، إذن، وهذا يعني أن من يستمر في “حربه” بعد الآن فإنما يحارب ضد المواطنين وضد الوطن وضد عروبة لبنان وضد المصالح القومية العلياز
هذا لا يعني الانتقال، حتماً وبلمسة زر سحري، على السلام، ولكنه يعني أساساً إننا قد “اكتشفنا” الطريق إلى السلام، وإننا قبلنا أن نبدأ مسيرتنا عليه ونحن نعرف سلفاً أن ثمة مصاعب وعقبات وكمائن كمثل الكمين الذي كاد يفجر ” الشرقية” ومعها (الاتفاق الثلاثي ونهج الوفاق، صباح أمس، على جسر نهر الموت – الزلقا).
فالمتضررون من “السلام العربي”، ومن “الحل الوطني” في لبنان كثر وأقوياء، ولهم وجودهم في الداخل إضافة إلى إمكاناتهم الهائلة في الخارج، وهؤلاء لن يوقفوا “الحرب” لأن شعب لبنان، بأكثريته الساحقة الماحقة كما بتنظيماته المسلحة الأساسية، قد تعب منها فقرر الخروج من دائرتها الجهنمية، بل إن هؤلاء المتضررين سيزيدون “قوة نيرانهم” ، الآن، مستهدفين سوريا بالدرجة الأولى، متفرضين إن ضربها في لبنان وعبره أسهل منه في أرضها، سيما وإنها باتت سيدة الموقف ومسؤولة مسؤولية شاملة عند ومكشوفة فيه.
إنها آخر سنوات الحرب، بمعنى إن كل الأطراف ستقاتل معاركها الأخيرة، وأصعب سنوات السلام بمعنى إن المواجهات فيها لها استهدافات محددة وواضحة تماماً.
والخطر هو أن يضيع أصحاب المصلحة في الحل الوطني والسلام العربي لحظة واحدة في الجدل البيزنطي حول جنس الملائكة، بينما هم جميعاً مستهدفون مع الاتفاق الذي لا يمكن لأحد أن يدعي له الكمال والعصمة.
إنه “الاتفاق الممكن والعملي” لإنهاء الحرب، وللولوج إلى عصر السلام، الصعب والمكلف، لكنه يستحق الثمن الذي يبذل من أجله مهما غلا… ولقد دفعنا الأكثر، على أي حال، في حرب محكومة سلفاً بأنها ليست وحدها الوسيلة الموصلة إلى الأهداف المحقة.
الخطر أن نعرق في التفسيرات المغرضة، وفي البحث عن النواقص وعن المنسي من المطالب، أو تأخذ بعضنا النشوة، فيعتبر النصر كاسحاً ماسحاً وخالصاً لشخصه الكريم ولا حق لأحد لا في مشاركته فيه ولا في المطالبة بالاعتراف به طالما هو خارج فلك الولاء للشخص المخلص.
ما علينا، لنترك حديث الهموم إلى يوم آخر، فاليوم محجوز للفرحة بانبثاق الأمل، أخيراً، بالسلام، الذي يجيء عبر حواجز كثيرة، بعضها ثابت وبعضها “طيار”، بشهادة الخرق اليومي لجدار الصوت العربي.
فلنستقبل عامنا الجديد بوصفه نهاية درب الآلام الطويل،
ولنزرع الورد في كل مكان، بغير أن نتخلى عن الحذر، حتى ينبلغ الصبح نواراً وتملأ الشمس دنيانا ضياء دفئاً أو حياة.
ولنتبادل التمنيات مع الأهل والأصدقاء والأحبة ممن هجرونا وهجرناهم بسبب “إقفال المعابر”، فهي لا يمكن أن تبقى مقفلة إلا بوجه السلام وتلاقي الأحبة وتوحد الوطن،
من فوق الحواجز نقول لمن هناك: كل هام وأنتم بخير،
وللجميع نقول: هلموا فتحملوا مسؤوليتكم في حماية الوعد بالسلام، هلموا فتحملوا مسؤوليتكم في إلحاق الهزيمة بالحرب.
ودائماً كنا أقوى من الحرب، وعلينا أن نبقى لنستاهل السلام الموعود.

Exit mobile version