طلال سلمان

على الطريق آخر المردة…

كأنما اختار لحظة الوداع بنفسه، سليمان قبلان فرنجية، فجاء رحيله إعلان نهاية لحقبة كاملة من تاريخ لبنان ونظامه السياسي وصيغة الحكم فيه.
رحل “آخر المردة”. رحل آخر “الحكام” الذين تناوبوا على السلطة تجسيداً للامتياز في قلب “الوضع الخاص”. وهو رحل في اللحظة التي تنزل فيها الطائفة إلى الشارع بشعار المعارضة، وكانت قبله ومعه مصدر الحكم وصانعة المجالس والحكومات – الدمى.
لقد اختلف الزمان، وتبدل الرجال، وانقلبت السياسات، واندثر “الغرب القديم”، وجاء العصر الأميركي بمفاهيم جديدة وأساليب جديدة وتحالفات غريبة لم يألفها أولئك الذين فتحوا عيونهم على أوروبا واستمدوا منها أسباب الدعم والعلم واقتبسوا عنها فنون لعبة الأقليات في التوازنات السياسية.
وسليمان قبلان فرنجية فارس، ولكنه زمان الكومبيوتر. وهو ابن بيئته، يتخلق بأخلاقها ويسلك وفق عاداتها، فيفتح بيه ويمد سفرته، ويلبي طالب الخدمة، ويفاخر بعصبيته، ويتواصل مع أقرانه أبناء العشائر الأخرى. لكنه زمن المخابرات والنفط والتروستات الصناعية والشركات متعددة الجنسية. وهو زمن أجهزة الاتصال الهائلة القوة والمدى، زمن التلفزيون والستليت والسليلور، بحيث باتت الإذاعة وسيلة متخلفة.
في الزمن الأميركي استشعر سليمان فرنجية غربة أخذت تتنامى حتى حاصرته في قصره حيث كان يتابع بحرقة ما يحدث وهو غير مصدق، فلما تأكد له أن تلك الغرائب والعجائب تحدث فعلاً اكتفى بدور “الشاهد” الصامت، المستنكف، المفجوع والمكمود، خصوصاً حين رأى الكل يشرب من نهر الجنوب ويرطن بالإنكليزية وباللكنة الأميركية.
ولكم هي رمزية مصادفة أن يرحل سليمان فرنجية بينما وزير الخارجية الأميركي (الثاني) جيمس بيكر يصل إلى لبنان، وإلى زحلة في البقاع، غير بعيد عن قاعدة رياق الجوية حيث استقبل “الرئيس” فرنجية وزير الخارجية الأميركي (الأول) هنري كيسنجر ليتبلغ منه أن ثمة عصراً جديداً مختلفاً جداً بحيث لا يمكن لآخر المردة أن يقبله أو يسلم بمنطقه وأحكامه.
كان كيسنجر بالنسبة إليه “يهودياً يحكم أميركا، أقوى دولة في الكون”، وكانت كلمات ذلك الوزير الفظ وغير المجامل تعني أن “الموارنة” سيتعرضون لخطر شديد، وإن المطلوب إنهاء نفوذهم في لبنان، ولو عبر عرض سخي – لم يلبث إن سمعه من أميركي آخر هو دين بروان – بأن توفر لهم البواخر لترحيلهم إلى حيث يشاؤون في أربع جهات الأرض!!
هي “المؤامرة” ولقد ظل حتى اليوم الأخير يروي تفاصيلها التي كان يشكك فيها بداية حتى “الحلفاء” الذين سرعان ما خذلوه وسعوا وراء الوهم فخاضوا في بحر من الدماء طلباً لحكم على حساب الطائفة.
ولقد كان سليمان فرنجية أول من دفع ثمن تلك الأوهام القاتلة التي كانت تجسد – في نظره – فداحة الانحراف في العقل السياسي الماروني كما مثله “الكتائبي الأول” بيار الجميل وذريته من بعده… على إن ضريبة زغرتا كانت “العربون” ثم غرقت الطائفة كلها (ومعها لبنان) في طوفان من الدم كان بين نتائجه أن أسقط “حق” أو جدارة الطائفة بالحكم.
حتى محاولة العودة إلى الرئاسة، في آب 1988، كانت جهداً يائساً أخيراً يبذل من أجل تأخير السقوط النهائي وإرجاء الكارثة… لكن القيادات السياسية المتورطة في رهانها الخاطئ ، والقيادات البديلة الثملة بأوهامها وجنون العظمة، كانت قد تجاوزت خط العقل، فاغتالت تلك الفرصة الأخيرة بفظاظة فارضة على الطائفة خياراً وحيداً: الانتحار. عندها أيقن سليمان فرنجية أن لا أمل في الخلاص!
لقد سمع “أبو المردة” طعناً مارونياً في مارونيته!
… وإذا كان السرطان الأميركي – الصهيوني (في نظر سليمان فرنجية) قد استشرى في العقل السياسي للطائفة إلى هذا الحد فمن أين يجيء وكيف يكون العلاج؟!
ها هو الفارس يترجل عن حصانه أخيراً، وقد هده صعوده في موقعه حتى النفس الأخير.
وها هو سليمان قبلان فرنجية يرحل عن بلد كان يفاجئه في سنواته الأخيرة كل يوم بحجم التحول الذي يطرأ عليه.
قالها صراحة: إن الرهان على إسرائيل انتحار، فما سمعوه وهلكوا،
وقالها صراحة: إن الخروج على العرب، والصدام مع سوريا انتحار، فما سمعوه وهلكوا وأهلكوا البلاد.
وقالها صراحة: إن التوطين خطر على الفلسطيني بقدر ما هو خطر على اللبناني، وإنه مشروع حرب أهلية مفتوحة، فاتهموه بأنه عدو الفلسطينيين وهو الذي شرفه العرب فكلفته قمتهم بأن يتحدث باسمهم عن فلسطين المقدسة وعن شعبها العظيم صاحب الحق الثابت في أرضه.
ومن أبسط الواجب علينا في “السفير” أن نذكر للراحل الكبير أنه سارع إلى ترؤس لجنة دعم الانتفاضة، وساهم من ماله الخاص في حملة “لست وحدك” التي نظمناها في بداية 1989، توكيداً لموقفه المبدئي الثابت في دعم نضال الشعب الفلسطيني وحقه في بلاده.
ولقد اختلف اللبنانيون أشد الاختلاف في تقييمهم لعهد سليمان فرنجية، وهو صاحب التاريخ الحافل والغني بالتجارب المرة والمواقف الحرجة، لكنهم اليوم على يقين – وبعدما انكشف الكثير من الأسرار وتبدى بعض ما كان غامضاً من وقائع السنوات السوداء – إن “المؤامرة” كانت أكبر من لبنان كله، وربما من المنطقة كلها،
وبمعنى ما فإنه مثلهم جميعاً كان بين أدواتها كما بين ضحاياها.
لقد رحل كبير آخر وفقد لبنان عنواناً من عناوينه، وسيمضي الزمن يغير في هذه البلاد، حتى ليكاد ينكرها الذين عرفوها كما ابتدعها الجنرال غورو وكما اصطنع استقلالها الجنرال سبيرز،
إن لبناناً ما قد رحل مع رجالاته: مع بشارة الخوري ورياض الصلح وعبد الحميد كرامي وحميد فرنجية وكميل شمعون وكمال جنبلاط وأحمد الأسعد وصبري حمادة وبيار الجميل والياس سركيس وأخيراً سليمان فرنجية.
ولبنان الجديد ، قيد التأسيس، ينتظر رجاله القادرين على بنائه.
ويبدو إن عليه أن ينتظر طويلاً، بينما الزمان لا ينتظر أحداً، خصوصاً هذا الزمان الأميركي الذي لا يبدو شديد الحرص على لبنان الذي كان، وقد كان سليمان فرنجية آخر المردة وآخر الحكام فيه.

Exit mobile version