طلال سلمان

علامات مرحلة في العلاقات الدولية

علامات لا تخطئها العين. إنها الخطوط والحروف والمواقف التي تجتمع حاليا في صفحة جديدة في كراس العلاقات الدولية. هناك من يراها صفحة “شخابيط” رسمتها أصابع مشاغبين أو أنامل أطفال لم يمسكوا بقلم من قبل. وهناك من يراها صفحة تعبر بالدقة الممكنة وبالصدق الكافي عن صعوبة المرحلة الراهنة في العلاقات الدولية وتشابك تعقيداتها.

***

قرأت حديثا أدلى به قبل أيام “الأخضر الإبراهيمي” لمجلة أكاديمية بريطانية جاء فيه الكثير مما يجب أن يطلع عليه الدبلوماسيون وصانعوا القرار. اختار من بين ما صرح به نقاطا ثلاث. اخترتها لأنني سمعته يرددها خلال فترة تمثيله الأمم المتحدة لدى الأزمة السورية وفترة توليه مسؤولية قيادة مجموعة من الخبراء لوضع تقرير عن سبل إصلاح جامعة الدول العربية. لا أنقل عنه حرفيا فأوراقي في مكان آخر ولكني أنقل عنه المعنى. كان يرى أن الجماهير والنخب الحاكمة والقائدة في العالم العربي فقدت الثقة في قدرتها على حل الكثير من المشكلات وأصبحت تنتظر من يأتي من الخارج ليحلها. كذلك استمر يحمل الولايات المتحدة المسؤولية عن كثير من مظاهر الاضطراب في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه ظل مقتنعا بأن لروسيا دورا في الشرق الأوسط وبخاصة في الأزمة السورية يتعين عليها أن تمارسه، وسوف تمارسه. اليوم أستطيع أن أقرر أن الروس استجابوا لقناعة الإبراهيمي بل وأكثر مما كان يأمل وينتظر. أستطيع أيضا أن أضم النقاط الثلاث إلى لوحة العلامات التي تصور حال الشرق الأوسط الراهنة.

كبداية لحديث العلامات أكرر هنا أنه لدينا ثلاث علامات متفق عليها مع الخبير العربي والأممي الأخضر الإبراهيمي هي بالترتيب شعوب ونخب عربية يائسة من قدرتها على حل مشكلاتها منفردة، والثانية أمريكا ما تزال المسؤولة عن كثير من أسباب الاضطراب في المنطقة، والثالثة أن لروسيا دورا في المنطقة يجب أن تلعبه وها هي تلعبه وربما توسعت فيه وفي اللعب.

***

اقترح إضافة علامة رابعة في صفحة “الشخابيط” أو الخطوط المتشابكة في كراس العلاقات الدولية الراهنة، هذه العلامة يجب أن تكون للصين. لا يحتاج المرء لكثير من الحنكة السياسية والدراية بدورات الصعود والانحدار في النظام الدولي ليدرك أن الصين على الطريق إلى الشرق الأوسط. وصلت بالفعل طلائع قوتها، والمنطقة الآن في انتظار وصول “العاصفة الصفراء” حاملة استثمارات ومشاريع تنموية ضخمة وقروض بلا حصر وقواعد في البحر وعلى البر، قواعد تبدأ خدمية لتنتهي عسكرية، وجحافل بشر للعمل ومد الطرق وتقديم الخبرة ونشر الثقافة الكونفوشية واللغة الصينية. الصين كما نلاحظ متريثة في تنفيذ خطة الدخول إلى الشرق الأوسط ، لديها أسبابها ولدينا اجتهاداتنا. كل ما يهمني قوله الآن هو أن هذا التريث وتفاصيل نشاط طلائع القوة الصينية وغياب اكتراث النخب الحاكمة في المنطقة بوصول الصين من عدمه، كلها علامة من علامات الصفحة الراهنة في العلاقات الدولية في الشرق الأوسط وحوله.

***

الغرب متردد سياسيا ومضطرب استراتيجيا ومتباعد الأجزاء سلوكيا. أتحدث هنا عن الغرب بمعناه الأوروبي ـ الأمريكي أي الغرب “عبر الأطلسي”. الارتباك الغربي واضح على الجانبين. في أمريكا، على سبيل المثال، حكومة شعبوية السلوك والاتجاه، تتمسك بأفكار قومية ساذجة تغطي بها عنصريتها وتمارس سلوكيات الصراع في خصوماتها مع دول أوروبية حليفة. كانت تجربة السنة الأولى من حكم الرئيس دونالد ترامب مروعة لأنصار الفكرة الغربية ومؤيدي الحلف الغربي ودعاة الحضارة الغربية الواحدة. في هذه السنة الأولى وحدها أخرج ترامب أمريكا من اتفاقية المناخ وأعلن تنكره لتطبيق المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو ثم عاد عنه. للمرة الأولى صار مستقبل الحلف موضع تساؤل. كذلك أثار انشقاقا واسعا عندما جدد تهديده إعادة النظر في الاتفاقية النووية التي عقدها الغرب مع إيران، واتسعت الفجوة مع دول أوروبا عندما انفرد بإعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل.

على الجانب الآخر لم تكن الأمور أحسن حالا. إذ صادف وصول ترامب إلى السلطة في أمريكا دخول أوروبا مرحلة إعادة لم الشمل وترتيب البيت من الداخل. ثم وقعت واتسعت أزمة البريكسيت، وهي الأزمة التي هزت أوروبا إلى الأعماق وبخاصة عندما اجتمعت على الترحيب بها كل من روسيا وأمريكا في وقت واحد، وعندما دفعت بدم جديد في عروق الحركات والأحزاب القومية واليمينية المتطرفة. تصادف أيضا أن تعرضت أوروبا لتدفقات بشرية غزيرة في شكل مهاجرين أو لاجئين من الشرق الأوسط اضطرت إزاءها إلى إغفال قضايا عالمية أخرى كانت تستدعي توحد الغرب وانتباه أوروبا بخاصة لها. حدث كل هذا وأكثر مثل النمو المطرد للاتجاهات الشعبوية والإرهاب وكلها عوامل لفتت انتباه وتركيز الحكومات الأوروبية بعيدا عن مصالح الغرب الكلية.

***

قرأت مؤخرا تقريرا صادرا عن “تشاتام هاوس” بعنوان العلاقات عبر الأطلسي: نحو تقارب أم تباعد. اشتغل على إعداد التقرير عدد من الباحثين النابهين ولمدة ثلاث سنوات. بحثوا في عمق العلاقة بين الطرفين، الأوروبي والأمريكي، وفي عناصر قوة هذه العلاقة وعناصر ضعفها. ركزوا على احتمالات تطور العلاقة في المستقبل واقترحوا عددا لا بأس به من التوصيات ليأخذ بها أو لا يأخذ صانعوا السياسة ومنظمات المجتمع المدني وغيرهم. التقرير برمته هام ويستحق القراءة والاستفادة من جانب من يهتمون بالعلاقات البينية في المنطقة العربية وبعمل وأداء المؤسسات الإقليمية كالجامعة العربية ومنظماتها ومراكز البحوث. ركزت اهتمامي على العناصر المؤثرة أكثر من غيرها في استمرار العلاقة بين جناحي الغرب، وبخاصة العناصر التي تدفع نحو تدهور هذه العلاقة بل وربما نحو تدهور الغرب بأسره كقوة يعتد بها في الشرق الأوسط وفي العالم.

هذه العناصر ثلاثة وهي الوضع الديموغرافي وحال الموارد وأداء المؤسسات. في الوضع الديموغرافي أكد واضعوا التقرير على حقيقة صارت ملموسة وهي إن الغالبية العظمى من مجتمعات الغرب ومنها أوروبا وأمريكا مجتمعات تشيخ، بمعنى أن كبار السن صاروا يشكلون نسبة كبيرة من السكان، بكل ما يحمله هذا المعنى من عواقب سياسية وتكنولوجية واجتماعية وآثار مباشرة على العلاقات بين دول الغرب. أضف إلى هذا الوضع حقيقة أخرى وهي إن الهجرة من دول أمريكا الجنوبية إلى الولايات المتحدة وكندا سوف تستمر وفي الغالب باطراد، وأن الهجرة من دول الشرق الأوسط وإفريقيا إلى القارة الأوروبية سوف تستمر. لا شئ يشي بأنه في القريب العاجل يمكن أن يتوقف تدفق الهجرة واللجوء السياسي. أيضا لا شئ يشي بأن يتوقف التغيير في التركيبة الديموغرافية للدول الغربية.

***

أما عن حال الموارد وأداء المؤسسات فقد توصل التقرير إلى أن الجزء الأوروبي من الجماعة الغربية سوف يستمر كجزء ضعيف في علاقات القوة داخل الجماعة الغربية. الموارد الأوروبية شحيحة وبخاصة في مسائل الغذاء والطاقة على عكس الموارد المماثلة في أمريكا. أمريكا في النهاية تستطيع الصمود منفردة بدون أوروبا إذا فرضت عليها ظروفها التحول نحو عزلة تاريخية أخرى. في الوقت نفسه أمريكا ليست بالقوة المادية ووفرة الموارد كما كانت في نهاية الحرب العالمية الثانية. بكلمات أخرى لا يجوز لسياسي أوروبي عاقل أن يتصور أن أوروبا يمكن أن تعتمد على تجربتها التاريخية مع الولايات المتحدة، وأقصد مشروع مارشال جديد، لتنقذ نفسها من كارثة اقتصادية أو إعماريه جديدة.

***

رصد التقرير أداء عدد من المؤسسات المتعددة الجنسية التي قامت على أساس التكامل السياسي بين أوروبا وأمريكا واعتمدت على استمرار الغرب كفيلا لها وراعيا. توصل مؤلفوا التقرير إلى حقيقة جديدة خلاصتها أن أغلب هذه المؤسسات، مثل الناتو والوكالة الدولية للطاقة النووية واتفاقية منع الانتشار، غير قادر على أداء واجباته والوفاء بالتزاماته على الوجه المرجو بل والضروري.

***

نشهد في الآونة الأخيرة صعود وانتشار توجهات شعبوية في أداء السلطة السياسية في عدد متزايد من الدول الغربية، يحدث هذا في وقت نرصد فيه كل صباح نكوصا عن القيم الديموقراطية وأخلاقيات اختص بها بين القدامى شعوب أوروبية ونقلها عنهم مفكرون وفلاسفة من كافة الثقافات والحضارات. نرصد أيضا ميلا متزايدا لتقليد أسوأ وأبشع ما ابتكره الغرب من أساليب استبداد وكره لشعوب من أجناس وأعراق وأديان أخرى. نشهد، أو شهدنا قبل سنوات قليلة، أزمة كادت تقصف بالرأسمالية، درة التاج الغربي، وما زالت البشرية تدفع غاليا ثمن الخروج من هذه الأزمة. ليس خافيا أن نوعا من القوميات يزحف على أوروبا ويعكس نفسه على سياسات ومواقف الرئاسة الأمريكية الراهنة، نوع أقرب إلى القوميات القبلية التي كثيرا ما أودت بكيانات سياسية وزعامات إلى التهلكة. أضف إلى ما سبق توقعات متزايدة عن شباب جديد في الغرب “رقمي” التنشئة والأحلام غير منتبه سياسيا ولا متفاعل مع مؤسسات وبطبيعته عابر حر للحدود الثقافية والسياسية .

أعود إلى ما يعكس الواقع الملموس، أعود إلى صفحة “الشخابيط” في كراس العلاقات الدولية. هناك قد أجد التفسير المريح لواقع غربي شديد التعقيد والتشابك.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version