طلال سلمان

علاقات لبنان سوريا خطوة اولى في اتجاة تصحيح

ستكون رحلة وليد المعلم من دمشق إلى بيروت، اليوم، طويلة جداً، بقدر ما استطالت »الطريق« بين العاصمتين المتجاورتين، في الجغرافيا والتاريخ والمصالح، خلال سنوات التباعد إلى حد يقارب »القطيعة« وحملات التباغض إلى حد يقارب »العداء«.ما تزال المسافة بين دمشق وبيروت، وبالعكس، هي هي: مئة كيلومتر أو تزيد قليلاً، برغم كل ما زُرع فيها وعلى جانبيها من ألغام الأحقاد والعبوات الناسفة للمصالح والحواجز النفسية الشديدة الانفجار.حقائق الحياة تفرض ذاتها، دائماً: يتبدل الحكام وتتغيّر السياسات، تنشب أزمات تدفع في اتجاه »القطيعة«، وتقفل الحدود وتتحول الطريق إلى »جبهة حربية«، أحياناً، ويقع الضرر على الشعبين المتداخلين بالتبادل السكاني الطوائفي، كما بأسباب القربى وصلات المصاهرة والنسب، والمتكاملين بالمصالح… ويتبدى وكأن نهاية العالم قريبة جداً حتى ليتعذر منع الكارثة.لكن حقائق الحياة تفرض ذاتها دائماً: لا الجغرافيا تتبدل ملتحقة بعواطف اللحظة، ولا التاريخ يخلع حقائقه نتيجة سورة غضب، ولا المصالح ـ وهي هنا تخص الشعبين ـ يمكن شطبها أو إلغاؤها أو استبدالها بما يماثلها، وهي راسخة وثابتة، كما الأرض وأهلها وتاريخهم المشترك.خلاف الإخوة هو الأصعب، وهو الأقسى على النفس.فكيف إذا ما عز الوسيط المؤهل لإصلاح ذات البين، خصوصاً وقد أدخل الدم المراق غيلة كبند أول في أي جدول أعمال مفترض لتصحيح العلاقة التي عانت من كثير من التشوهات والاستغلال البشع والاتجار الرخيص بموجبات الوصول بها إلى حدود اتحادية، ثم بموجبات قطعها فوراً ولو كان ذلك أشبه بقطع الوريد؟!وكيف إذا كان المستفيدون من الخلاف كثيرين، في الخارج البعيد والخارج القريب ومن ثم في الداخل، بعدما صار الخلاف أو صُيّر مؤسسة جامعة للمصالح والمنافع، بينها رئاسات ووزارات ونيابات وأكوام من الأموال والمنافع في البر والبحر والجو؟!وكيف إذا كان بين تجار المصالح هؤلاء هم من أفاد في مرحلة »التكامل« فكاد ينادي بالوحدة، ثم أفاد من مرحلة الخصومة إلى حد القطيعة فكاد يُخرج الناس إلى الحرب من أجل السيادة والاستقلال، (مع أن توقيعه ما زال يتوهج على وثائق »معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق«… كما أن شهود الحال ما زالوا، بأكثريتهم، أحياء يرزقون وعلى الجانبين المتقابلين للحدود المتداخلة إلى حد أن ترسيمها بات قضية دولية).ليس أكثر من الأسئلة والتساؤلات التي تفجرت بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي ظل معظمها بلا إجابات قاطعة.. وقيل في التفسير إن السبب الأساس هو الارتباك الذي عاشته سوريا، قيادة وشعباً، في مواجهة هذه الجريمة المهولة التي كادت تجعل اللبنانيين يعيدون النظر في العديد من البديهيات.ولقد تحول هذا الارتباك ذاته إلى استثمار مجز لكل القوى الأجنبية والعربية التي قررت، لأسباب تخصها، إنهاء »التفويض الدولي« لسوريا بالشأن اللبناني… وكان سهلاً العثور على أخطاء، بل وعلى خطايا، يمكن استغلالها لزيادة الفجوة بين البلدين، خصوصاً أن ذلك »التفويض« الذي تجدد غير مرة قد امتد لحوالى ثلاثين سنة طويلة، تخللتها حروب أهلية واجتياحات إسرائيلية أدت في ما أدت إليه إلى خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وإلى مؤتمرات دولية لإعادة صياغة النظام السياسي (جنيف، لوزان ثم الطائف)، مع الحرص دائماً على تثبيت »العلاقات المميزة« بين لبنان وسوريا.كثيرون يعتبرون أن القرار ،1559 الذي أعدته الإدارة الأميركية مع الرئاسة الفرنسية السابقة (شيراك) واستصدرتاه عن مجلس الأمن الدولي في مطلع أيلول ،2004 كان بمثابة إعلان »حرب دولية« على الوجود السوري في لبنان، وأن القيادة السورية وجدت نفسها في مواجهة هذه »الحرب« فجأة وبلا مقدمات… وأنها ردت بهجوم مضاد عنوانه التمديد لرئاسة العماد إميل لحود، خلافاً لما كان متوقعاً، بل ومعلناً. فكان أن تحول لبنان إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين سياستين ومشروعين بدول كثيرة.لم يمر، بعد، الزمن الكافي للنسيان، وكل يستذكر ما يخصه أو يفيده من هذه الوقائع المحورية التي ليس من المبالغة القول إنها كادت تمهد لاختراع »تاريخ جديد« للبنان، وكادت تبتدع له هوية غير هويته الحقيقية والثابتة والدائمة.لقد أريق دم عزيز في لبنان، وأريق بغزارة، حتى كاد الدم يطمس الكثير من الوقائع، ويغيّر في العديد من الثوابت… خصوصاً أن جهات كثيرة سارعت إلى توظيف الدم لنسف علاقات الأخوة والجيرة والمصالح المشتركة بين البلدين المتكاملين.كان بين هذه الجهات »دول« عديدة، أخطرها الإدارة الأميركية، وكان بينها أيضاً أطراف عربية افترضت أن إخراج سوريا من لبنان يوسع لها مساحة نفوذها، ولو في بلد خرب.المهم أننا الآن أمام نقطة بداية جديدة لتصحيح العلاقات بين هاتين »الدولتين« اللتين ستظلان شقيقتين، وجارتين، ومصالحهما مشتركة إلى حدود تقارب التكامل.والمهم أن يتم التصحيح بجدية، وبعقلانية، وبوعي كامل لمجمل ما حصل من تطورات خطيرة، سواء داخل كل »دولة«، أم على مستوى العلاقات بين »الدول المعنية«، وانعكاسات ذلك على علاقات المستقبل بين هاتين الدولتين المتجاورتين إلى حد التداخل في الحدود والمصالح والصلات العائلية.ومن حق اللبنانيين والسوريين أن يفترضوا أن الدعوة التي يحملها الوزير وليد المعلم إلى الرئيس ميشال سليمان للقاء الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق ستكون فاتحة عملية لتصحيح هذه العلاقات وتخليصها مما لحق بها من أذى انعكس إضراراً بمصالح »الدولتين« الشقيقتين…. خصوصاً أن المحكمة الدولية التي استثمرت كمسألة خلافية تأخذ طريقها الطبيعي إلى غايتها، بمعزل عن محاولات التوظيف الفاحشة التي كادت تدفع اللبنانيين إلى الفتن والاقتتال بعدما أصابتهم لوثة الدم.فلنأمل أن يكون المستفيدون من »حرب الإخوة« قد باتوا أضعف من أن يستطيعوا منع عملية التصحيح الضرورية للعلاقات بين هاتين الدولتين، لبنان وسوريا، اللتين ستظلان متكاملتين، لا تستغني إحداهما عن الأخرى، والإضرار بأي منهما إضرار بالثانية.لنأمل أن تكون الخطوة الأولى جدية وثابتة على الطريق إلى تصحيح ضروري لعلاقات حتمية، كانت وتبقى غير قابلة للإلغاء، مهما اختلفت العهود والسياسات.ولعل لقاءات الرئيسين سليمان والأسد في باريس قد مهّدت لعملية تصحيح جدية وشاملة، مع ضرورة التمهّل لاستيعاب دروس السنوات العجاف.

Exit mobile version