طلال سلمان

عقوبة واحدة تكفي يا معمر

بداية، لا بد من الاعتراف بالتقصير العربي العام تجاه ليبيا وشعبها المحاصر بقرار »دولي« ظالم، حيثياته سياسية بالمطلق وان تلطى صائغه الاميركي (البريطاني) وراء المأساة الانسانية التي نجمت عن تفجير طائرة ركاب اميركية فوق لوكربي الاسكتلندية.
بداية، لا بد من الجهر بأن العرب، الذين يستشعرون ضعفا يصل بهم الى حد قبول الاذلال، قد خضعوا للابتزاز المكشوف، وانهم قد هربوا من مواجهة التحدي الذي فرض عليهم، برغم انهم كانوا يعرفون ان مبرراته غير مقنعة، وان استهدافاته تتجاوز ليبيا وشعبها وشخص معمر القذافي لتصيبهم جميعا، ولتحرجهم بل وتدينهم بنقلهم من موقع صاحب الحق والضحية المباشرة لارهاب دولي مفتوح الى موقع الجاني والارهابي المتوحش الذي لا يتورع عن تفجير النساء والاطفال في الجو، بلا سبب ولا مبرر غير التلذذ بالقتل!.
وبالتالي فإن لمعمر القذافي الحق في ان يلوم العرب ويأخذ عليهم تقصيرهم ليس في حق ليبيا وحدها، بل في حق بلادهم وامتهم جميعا، وتخاذلهم في تحدي »القرار الدولي« المتعسف، والذي اتخذ بمعاقبة شعب كامل وفرض الحصار عليه، بسبب الاشتباه مجرد الاشتباه بتورط رجلين في تنفيذ تلك الجريمة النكراء،
ان العرب الذين تعبوا من الصراخ والتشكي والتظلم فلم يسمعهم المتحكمون ب»القرار الدولي«، ولم يتكرموا عليهم بتنفيذ اي من القرارات الدولية المتصلة بحقوقهم في أرضهم، ما كان يجب ان يصدعوا فيشاركوا في »احترام« الحصار او العقوبة الجماعية المتخذة ضد شعب هو بعضهم، والالتزام بمقتضياته وكأنهم يسلمون بصحة الاتهام ومن ثم »بعدالة« الانتقام الشامل.
كان العرب يعرفون ان الامر يتجاوز طائرة لوكربي، بل ولعله لا يتصل بها من قريب او بعيد، وانها مناسبة ممتازة لاحت فاقتنصها المتحكمون بالقرار الدولي »ليؤدبوا« نهج »التمرد« الذي اشتهر به القذافي، (في مواجهة محاولات الهيمنة الاميركية) والذي واصل الالتزام به (منفرداً في حالات كثيرة)، ووصل به احيانا الى داخل الولايات المتحدة ذاتها، وان اتخذ غير مرة طابعا كاريكاتوريا.
وكانوا يعرفون ان القرار لا علاقة له بالضحايا او بذويهم الذين سرعان ما جهروا بمواقفهم وميزوا أنفسهم عن اصحاب القرار السياسي في بلادهم، بعدما لمسوا مباشرة مدى التعاطف الليبي معهم كأسر منكوبة، وبغض النظر عن النزاع الذي اعطي طابعا قانونيا معقدا، بحيث ستكون »المحاكمة« ان هي تمت غير مسبوقة في التاريخ القضائي برمته.
برغم ذلك فقد التزم العرب، بمجموعهم، بالنص الحرفي للقرار، وأسقطوا ليبيا وشعبها من حسابهم، برغم الرصيد الممتاز لهذا الشعب العربي في نصرة قضايا أمتها، ليس فقط بمال نفطه أو بسلاح جيشه وإنما بتضحيات أبنائه على كل جبهة من جبهات القتال مع العدو الإسرائيلي (سقى الله أيام القتال..).
توقفت رحلات الطيران العربي، وما أكثر شركاته (ومعظمها حكومي) وما أفخم طائراته (ومعظمها لا يجد ركابا يملأون مقاعدها العديدة)،
وامتنع كثير من المسؤولين العرب عن زيارة ليبيا، ولو من باب التضامن أو التعاطف أو توكيد الأخوة، حتى لا يتعرضوا لخيار بين أمرين كلاهما مرّ: أن يتجشموا عناء السفر الى جربة في تونس، أو القاهرة في مصر، جواً، ثم إكمال الطريق بالسيارة براً (وعلى امتداد مئات الكيلومترات) الى طرابلس في ليبيا، أو أن يتحدوا القرار الدولي فتخرق طائراتهم الحصار لتحط في أي مطار ليبي.
كل ذلك صحيح، ومؤلم،
لكن قرار معمر القذافي »الانتقامي« بإدارة الظهر إلى العرب، والتوجه نحو افريقيا، وكأنها »ضرة« العرب، وبديلهم، هو الآخر غير صحيح ومؤلم.
إنه قرار من الطبيعة ذاتها للقرار الدولي: عقوبة جماعية توجه ليس لشعب واحد، هذه المرة، بل لأمة بكاملها،
إنه قرار ظالم لعله صدر في لحظة غضب أو وجع، ولكنه في غمرة الانفعال وقَّع على شعب ليبيا، بل وعلى الأمة جميعا، عقوبة إضافية.
من حق القذافي أن يلوم وأن ينتقد وأن يدين من يعتبرهم مقصرين، ولكن ليس من حقه أبدا أن يقتص من العرب جميعا، وهم الذين طالما وقفوا معه وساندوه وأحبوه ورفعوا صوره في بيوتهم واحتضنوه وذهبوا إليه متضامنين ومؤيدين، في العديد من المواجهات التي خاضها مدفوعا بالزخم الثوري أو مضطرا ومن موقع الدفاع عن نظامه.
كان معمر القذافي الثائر العربي الوحدوي المقاتل من أجل تحرر الأمة وإنسانها »بطلاً« قوميا، لسنوات طويلة، ثم اختار أن يندفع في اتجاه »النظرية العالمية الثالثة«، وهجر موقعه الأصلي وفيه الشعارات الأصلية لثورته المجيدة التي استقبلها العرب بفرحة غامرة فأنعشتهم بعد هزيمة 1967 وأكدت ان روح الأمة بخير، وأن إرادتها سليمة برغم جراحها،
وكان القذافي كلما غضب من حاكم عربي أو خذله نظام عربي يرد بعصبية مفسحا في المجال أمام عودة الكيانية والاقليمية الى التنامي وإلى الانتقام من »الرعايا العرب« عموما.
على انه ليس وقت العتاب أو الحساب الآن،
انها ساعة لاعادة وصل ما انقطع، ولتدعيم الصف العربي المتداعي، ولتعزيز ارادة الصمود، داخل ليبيا كما على مستوى الامة، ولمواجهة القرار الدولي الظالم، ليس لليبيين فقط بل للعرب مجتمعين.
ان اخراج ليبيا من العرب اضعاف لها ولهم، وذهابها الى افريقيا من دونهم وعلى حسابهم ليس اضافة الى افريقيا بل هو اعلان عن خسارة مزدوجة للطرفين.
ان العرب قوة لافريقيا وهي قوة لهم،
واذا كان من حق القذافي ان يطلب من العرب الالتزام بواجبهم القومي فذلك لا يكون بخروجه على التزامه الذي كان وما زال مصدر الشرعية الاصلي لثورة الفاتح وللسلطة التي قامت واستمرت باسمها.
عقوبة واحدة تكفي يا معمر،
وتذكر ان ثمة من يقدم روحه رخيصة بعد، باسم العرب ونيابة عنهم ومن أجلهم، وبغض النظر عن مواقف أنظمتهم او سلاطينهم.
وليكن الموقف الاخير لمجلس الجامعة العربية بداية التصحيح والعودة الى ميدان المواجهة، كطرف واحد، مع القرار الدولي المتعسف، بدل ان يتحول الأمر الى مواجهة بين الضحايا، والى اضعاف اضافي للعرب مجتمعين، داخل ليبيا وخارجها.

Exit mobile version