طلال سلمان

“عقد وطني”للجزائر عرب

اخيرا، عاد »الاباء« و»الابناء« الى التلاقي بعد افتراق سرعان ما تحول الى اشتباك بالسلاح فإلى مشروع انتحاري كاد يضيع الجزائر ويمزقها عبر حرب اهلية مفتوحة لكل من يريد الاتجار بالدم وبالاحلام المسفوحة،
و»العقد الوطني« الذي اصدره لقاء الاحزاب الجزائرية المعارضة، في روما، هو نص وثائقي يكاد يكون ارقى ما صدر عن اي طرف سياسي في المنطقة العربية خلال ربع القرن الاخير: انه صوت الجرح، مطعما بشجاعة الاعتراف بالقصور والخطأ.
فالمعارضون من ذوي التاريخ الحافل والتجربة »الدموية« الغنية، يستوي في ذلك »الاباء«، مثل الرئيس احمد بن بله والمعارض كمحترف وحسين آية احمد (ومعهما عبد الحميد مهري، وكيل تفليسة جبهة التحرير الوطني الجزائرية) و»الابناء« من قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ (انور هدام ورابح كبير، نيابة عن المسجونين والمخضعين للاقامة الجبرية فضلا عن المقتولين او الذين هم برسم القتل اليومي)..
على هذا فلا احد منهم يستطيع ادعاء البراءة والتنصل من مسؤوليته عما يحصل، حتى وهم اهداف رصاص »ربيبهم« المشترك: الجيش!
انه »جيشهم«. وهم رأوه يتمرد عليهم ويخرج على طاعتهم وسكتوا، لأن كل طرف كان يحاول او يريد الاستعانة به ضد الاخرين.. بل لقد تورط بعضهم فشجع »الانقلاب الاول« على الشرعية والديموقراطية والانتخابات في 19 حزيران 1965 (انقلاب بومدين ضد الرئيس الاول للجمهورية، واحد رموز الثورة احمد بن بلة)… كذلك شجع آخرون محاولات انقلابية ضد بومدين، وفشلها لا يعفي المتورطين من مسؤولياتهم، كما ان نجاحها في ما بعد (اختيار الشاذلي بن جديد ثم خلعه) لا يبرئ المنظمين من جريمة اغتيال الديموقراطية.
في اي حال، فليس ثمة فسحة من الوقت لممارسة ترف الحديث عن الماضي بالادانة او بالاشادة.المهم ان ِهؤلاء المكتوين بالنار وبلوثة الدم قد وجدوا في انفسهم من الرجولة ما يكفي لتجاهل اشخاصهم والتقدم لمحاولة انقاذ الجزائر وشعبها العظيم من مخاطر لا حصر لها.
والاهم ان الدم المراق اضاء الطريق وحدد وسال الانقاذ وحماية المستقبل: الديموقراطية الاجتماعية في اطار مبادئ الاسلام، رفض العنف للوصول الى السلطة او للبقاء فيها، رفض الدكتاتورية بأشكالها كافة، منح الشعب، حق الدفاع عن مؤسساته المنتخبة، احترام التناوب السياسي من خلال الاقتراع العام، احترام شرعية الشعب، فالشعب وحده هو الذي يحق له اعادة النظر بالمؤسسات التي تم انتخابها بحرية، ضمان الحريات الاساسية الفردية والجماعية، اخراج الجيش من اللعبة السياسية، الاعتراف بالعناصر المكونة للشعب (ثقافيا على وجه الخصوص. من هنا القول بضرورة الاعتراف بالامازيغية)..
انها المطامح المشروعة والاماني المقموعة للامة العربية على امتداد ارضها ما بين خليجها والمحيط الاطلسي: انها كلمة السر للغد المرتجى.
ليس للجيش الا بنادقه للرد. لكن رصاص القتل العمد كثيرا ما ارتد الى صدور مطلقيه وهم يواجهون شعبهم كله بالعجز عن حل ازمته الوطنية ومشكلاته الاقتصادية بكل ابعادها الاجتماعية المدمرة.
وفي الجزائر حيث كل مواطن قد »هزَّ السلاح وطلع الجبل« وقاتل »ضد الفرنسيس« وتحت راية الثورة، الاسلامية في مضمونها والعربية في شعارها والوطنية التحررية في استهدافاتها المباشرة، لا تخيف بنادق الجيش احدا بل هي تستولد المزيد من البنادق في مواجهته وتفقده ما تبقى من رصيده الوطني ومن »شرعية« قيامه بالسلطة بذريعة تعذر الاتفاق على بديل ديموقراطي.
ولقد كان المعارضون الذين يمثلون بالتأكيد اكثرية الشعب الجزائري موضوعيين بل وكرماء حين عرضوا على السلطة »غير الشرعية« القائمة بالامر الان، فكرة »الشرعية الانتقالية«، متجاوزين المحاسبة عما وقع فعلا، مغلبين ضرورة انقاذ المستقبل على الانتقام للماضي او من الماضي.
انها فرصة تاريخية جديدة تفتح، سياسيا وليس فقط نظريا، امام الجزائريين عموما، بمن فيهم قيادات الجيش التي استمرأت السلطة فتمترست في دواوينها واطلقت الدبابات و»القناصة المقنعين« لمطاردة الارادة الشعبية في الشارع بحجة مكافحة التطرف والارهاب والاصولية الاسلامية.
انها فرصة تاريخية لمصالحة لا بد منها بين الاسلام والمسلمين، كما بين »الثوار« والديموقراطية، كما بين »الشعب« و»الجيش« الذي انشئ للتحرير فانتهى او يراد له ان ينتهي اداة للتدمير الوطني الشامل.
و»العقد الوطني« ليس انتصارا للجبهة الاسلامية للانقاذ، كما قد يقرأه الغرب والمستغربون، بل هو انتصار للديموقراطية في الجزائر، وربما في الوطن العربي كله، اذا توفرت له فرصة التطبيق.
فهذه الجبهة، اذا ما انقذت نفسها من مرارات الخيبة واحقاد الفشل او الافشال المتعمد في اخذ السلطة، هي الامتداد الطبيعي لجبهة لتحرير الوطني الجزائري بعد اخفاقها في انجاز مهماتها التاريخية في تحقيق »الديموقراطية الاجتماعية في اطار مبادئ الاسلام« و»رفض العنف للوصول الى السلطة او للقاء فيها« و»احترام التناوب السياسي من خلال الاقتراع العام«.
لقد سقطت تجربة »الحزب الواحد« في السياسة والحكم.
وبديهي ان تسقط تجربة »الحزب العسكري الواحد«، حزب الجيش، حتى لو كان متحدرا من صلب مؤسسة سياسية.
للمناسبة ومن باب اظهار حجم المخاطر بل الكوارث التي وقعت وتقع في الجزائر، لا بد من الاشارة الى ان اكثر من خمسين الف مستوطن فرنسي (اصحاب الاقدام السوداء، كما يسمون) قد استفادوا من مناخ الشقاق الوطني والصراع الوحشي على السلطة، للعودة الى الجزائر، وهم قد استردوا »مزارعهم« و»مصالحهم«، بينما الكل غافل عنهم، تعميه لوثة الدم والتوهم ان »المستعمر« القديم و»الرومي« اقرب اليه من مواطنه ورفيق سلاحه في الثورة التي كان في اساس انتصارها الفهم المعاصر والمستنير للاسلام كرسالة تحريرية.
ولنأمل ان يلتقط القائمون بالأمر في الجزائر هذه الفرصة التاريخية.
حمى الله الجزائر والجزئرايين.
طلال سلمان

Exit mobile version