طلال سلمان

عفو عن تائبين ام خروج على هوية لبنان

.. فلما كانت الجلسة الثانية للمجلس النيابي تبدى ان »قانون العفو« الذي أقره في جلسته الأولى فأخرج سمير جعجع من السجن بطلاً للحرية وقديساً شفيعاً للوحدة الوطنية لم يكن إلا »أول الغيث« الذي لم يلبث ان انهمر، أمس، ليطهر كل من خان أرضه وقاتل شعبه من حضن الاحتلال الإسرائيلي، مع الإصرار على إعادة الاعتبار إلى أولئك الذين لهم توصيف واحد في قوانين الدول جميعاً: عملاء الاحتلال.
… علماً بأن الباب ظل مفتوحاً أمام المغلوبين على أمرهم والذين أظهروا الندم وأعلنوا التوبة وتذرعوا بأن ظروف الحصار ومخاطر الحرب قد أخذتهم إلى الخطأ مرغمين، فحوكموا بتفهم وبمراعاة لأوضاعهم، ثم خرجوا ليكملوا حياتهم كمواطنين في أرضهم وبين أهلهم.
لكن جلسة »العفو« الأولى بما رافقها من مناخات »انتخابية« ضاغطة وفرت ما يشبه الإجماع من حول »القانون« الذي صاغته كونفدرالية الطوائف، أغرت الطامحين إلى الزعامات الطائفية فإذا هم ينتقلون من الدفاع إلى الهجوم بلهجة المنتصرين على مفاهيم الانتماء الوطني وهوية لبنان العربية التي بين عناوينها الأساسية العلاقة المميزة مع سوريا والتكاتف والتضامن مع شعب فلسطين، أقله مع هؤلاء الذين هجرهم الاحتلال الإسرائيلي من أرضهم فجاؤوا إلينا »لاجئين« وعاملناهم في الغالب الأعم كأسرى حرب أو كيد عاملة رخيصة تعمل في »الأسود«.
لكأنما صارت الوطنية والعروبة من مخلفات النظام البائد، ولا بد من اجتثاثهما لكي يتكامل النصر ل»ثورة الأرز«!
أو لكأنما العروبة قد اقتحمت لبنان محمولة على ظهر الدبابة السورية، وعليها بالتالي ان تجلو مع جلاء »الوصاية السورية« إلى ما وراء الحدود التي يراد الآن ترسيمها »بالأزرق«، تيمناً »بالخط الأزرق« الذي رسمته الأمم المتحدة بديلاً مؤقتاً من الحدود الدولية بين لبنان والكيان الصهيوني.
لكأنما صار ذلك ممكناً باسم التحرر من »الوصاية السورية« التي لا يتورّع البعض عن توصيفها »بالاحتلال«، ليس فقط لكي ينزع عن العلاقة مع سوريا مضامين الأخوة ووحدة المصير، بل لكي ينزع عن إسرائيل صفة العدو، ولكي يشوّه معنى العروبة والانتماء الوطني ويساوي بين المقاومة وعملاء الاحتلال الإسرائيلي فإذا الكل سواء، يعيشون »فيدراليتهم« مطمئنين في ظلال الوصاية الدولية.
لقد اتسع الشرخ في المجلس النيابي الوليد، فالخلاف الآن يتعدى مكرمة العفو عن سجين حوكم فأدين أمام أعلى هيئة قضائية في لبنان التي يرأسها قضاة لم يطعن أحد في نزاهتهم، وبعد محاكمات علنية استغرقت شهوراً طويلة، ومرافعات لمحامين كبار حاولوا فلم يستطيعوا دحض الوقائع والأدلة وإفادات الشهود واعترافات بعض المتورطين في الجرائم المرتكبة، التي ذهب ضحيتها زعماء وطنيون كبار مثل الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وقادة سياسيون لهم حضورهم الشعبي مثل الراحل داني شمعون، فضلاً عن العديد من »المقاتلين« والمرتدين على قيادتهم…
لا يتعلق الأمر بوجهات نظر سياسية، بل يتصل بموقع لبنان ودوره ومصيره.
فالعلاقات الطبيعية، أي الأخوية، مع سوريا ليست تفصيلاً، بل هي بين أسس وجود هذا الكيان.
وبرغم ما قد لحق بهذه العلاقات من أذى بسبب الأخطاء والتجاوزات وتغليب »الأمني« على السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فإنها ضرورة للبنان كالماء والهواء، وعلى لبنان الحرص عليها واستنقاذها من التشوّه ومن أحقاد الانعزالية والكيانية بل العنصرية، ومن رد الفعل لا سيما إذا جاء من الطبيعة المرضية ذاتها.
وإذا كان سمير جعجع قد غفل وقد أسكره النصر السياسي المجاني الذي جاء إليه في سجنه أن يعتذر من ضحاياه، أو ان يتلو »فعل الاعتراف« و»فعل الندامة«، وأن »يجامل« حلفاءه الذين
تجاوزوا عواطفهم وربما ثوابتهم السياسية ليؤكدوا حرصهم على طيّ صفحة الحرب، بفرض ان مثل هذا الإجراء قد يمكّن للوحدة الوطنية…
.. فإن الجنرال عون قد جهر بما كان يتحاشى إعلانه من قبل، على كثرة ما أدلى به من أحاديث وما أدير معه من حوارات تجنب فيها دائماً الإشارة إلى الموقف من إسرائيل ومن تعاون معها من اللبنانيين،
.. حتى كانت الجلسة الثانية لمجلس كونفدرالية الطوائف فإذا هو يزايد على من سبقه إلى الحديث في هذه المحرمات… وهكذا فإنه أضاف البعد السياسي إلى التوصيف الإنساني الذي أسبغه غبطة البطريرك الماروني خلال إشارته إلى »هؤلاء اللاجئين إلى إسرائيل«، فكان كمن يصفهم ب»الابن الضال« ويطلب الرأفة بأوضاعهم العائلية واستعادتهم إلى حضن الوطن… وهذا ما لا يعترض عليه أحد، ما دام لا يعكس موقفاً سياسياً من إسرائيل، وهي عدو من قبل ومن بعد.
أخطر ما في الأمر ان هذه المواقف المعلنة تفضح حقيقة النظرة إلى المقاومة، في حاضرها ومستقبلها… وهي مواقف تنطلق من القرار 1559 وتنتهي به، بل لعلها تتجاوزه وقد تصل بعد تبرئة المتعاملين إلى المطالبة بمحاكمة المجاهدين الذين بذلوا دماءهم لتحرير لبنان بذريعة إساءة العلاقات »الى دولة جارة وصديقة«.
إن هذه المواقف لا تستبطن العداء لسوريا فحسب، بل هي قبل ذلك تجهر بالعداء لهوية لبنان ولانتمائه العربي ولدوره القومي الذي لم يبدأ مع »الدخول« السوري ولم يخرج بخروجه، بل إنه كان درع حماية لبنان من قبل ومن بعد.
وحدة وطنية، نعم. ولكن هذه المواقف لا تستبقي وحدة ولا تحفظ وطنية!

Exit mobile version