طلال سلمان

عشرة دولارات لكل مواطن عنيد

قدم مجلس النواب الأميركي عرضاً سخياً إلى لبنان، لن يمكننا إذا ما تعاملنا معه بالعقل البارد وبالحساب الحار أن نرفضه: مساعدة بقيمة خمسة وثلاثين مليون دولار، موزعة على خمسة وثلاثين ألف جمعية ومؤسسة من هيئات المجتمع المدني، إذا نحن قررنا إرسال الجيش إلى الجنوب، لحماية الخط الأزرق، ومن خلفه العلم الأبيض المزروع بالنجمة السداسية الزرقاء!
ولسنا ندري إذا ما كان بإمكان الاقتصاد اللبناني أن يستوعب مثل هذه المساعدات الهائلة، وإذا ما كانت خطط مجلس الإنماء والإعمار والمشروعات المرجأة التنفيذ لإصلاح ما أفسده أو عطّله الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي، ستقدر على صرف هذا المبلغ المهول بالسرعة المطلوبة!
بل لعلنا نأمل أن تحل الطمأنينة في نفوس اللبنانيين على مصير ليرتهم البائسة، فمثل هذه المساعدة الهائلة ستلغي المفاعيل المقلقة لتعاظم الدين العام وفوائده، ولمختلف وجوه الضائقة المعيشية التي تتفاقم كل ساعة.
الأخطر أن هذه المساعدة المربوطة بإرسال الجيش إلى الحدود ستمكّننا من إعادة تسليح هذا الجيش الفقير بسلاحه وإمكاناته، إذ سيمكننا الآن وقد تعمّق اطمئناننا إلى صدقية الإدارة الأميركية الجديدة في مناصرتها لحق الشعوب في التحرر والاستقلال أن نبني مفاعلاً نووياً أكثر تقدماً من مفاعل »ديمونه« الإسرائيلي النووي، وسننتج من الصواريخ حاملة الرؤوس النووية أكثر من المئتين التي لديها، كما سننتج طائرات أسرع من طائراتها الأميركية المنشأ ودبابات أقوى من دباباتها الأميركية المحرفة إلى »ميركافا«.
لا عذر للبنان، بعد الآن، في عدم إرسال جيشه إلى الخط الأزرق… فهو سيكون أقوى من »غريمه« على الجانب الآخر من الحدود، وسيتمكن بالتالي من رعاية شجرة السيادة ومن صيانة مجد الاستقلال ومن توكيد منعة الكيان الخالد وتحصينه في وجه النوايا الإسرائيلية والأطماع المعلنة في أرض الآخرين، بعدما تم استيعاب الأرض الفلسطينية بالمستقدمين من أربع رياح الأرض؟
وعلى الصعيد الداخلي يمكن لكل »القراني« بدءاً من قرنة شهوان إلى »المنبر الديموقراطي«، وما بينهما بكركي، أن يزيدوا من شراسة هجومهم بهدف إرسال الجيش إلى الجنوب: أيمكن أن يكونوا أقلّ وطنية من مجلس النواب الأميركي؟! أو يصح أن يظهر وكأن النواب الأميركيين الموالين لإسرائيل، علناً، أكثر حرصاً على السيادة والعنفوان والاستقلال والقرار 425 والخط الأزرق وكوفي أنان الأسمر ولارسن الأشقر، من هؤلاء اللبنانيين الأقحاح المشغولين بهمّ الانتشار السوري وخريطته »الطائفية«؟!
ومع التفهّم الكامل لحرص مجلس النواب الأميركي، وقوى الضغط اليهودية، على الأمن الإسرائيلي،
ومع التقدير الكامل لحرصهم على ازدهار الاقتصاد الأميركي وعدم إرهاقه بالمساعدات الخارجية الثقيلة الوطأة.
مع هذا وذاك فلسنا ندري كيف نشكر هؤلاء على »تقديرهم« العالي للبنان، ودعمهم العظيم لجيشه…
بخمسة وثلاثين مليون دولار، بينها أكثر قليلاً من نصف مليون دولار للتجهيزات العسكرية، يريدون توظيفنا حرس حدود لإسرائيل!
حفنة من الدولارات… أكثر منها ما كانت تنفقه إسرائيل على جيش العملاء بقيادة لحد على »حرس حدودها اللبنانيين«!
لو وزعنا المبلغ على المواطنين اللبنانيين لنال كل منهم، مدنياً كان أو عسكرياً، عشرة دولارات!! هذا كثير!
شكراً للنواب الأميركيين الذين يبدون أكثر حرصاً على كرامة اللبنانيين جيشاً ومواطنين، من كثير من أقطابنا وقياداتنا السياسية ومراجعنا الجزيلة الاحترام.
واقتراحنا أن يوزع مجلس النواب الأميركي هذه الحفنة من الدولارات على حفنة »القراني« التي تنوب عن رجاله الأبرار هنا في حماية لبنان وشعبه العنيد!
* * *
حليم أبو عز الدين
ليس العمر وحده سبب الغياب… فحليم أبو عز الدين كان أقوى من الشيخوخة وأصلب، بل إن روحه التي كانت تغذي الشباب بالعزيمة لم تتأثر بتقادم السنين، ولعلها عوّضت بإشراقاتها المتوالية غياب العديد من رفاق الدرب والشركاء في الحلم السني وانطواء الكثير من رايات النضال.
وليس الحزن وحده سبب الانطفاء… فحليم أبو عز الدين كان قد أعطى نفسه للهم القومي والوطني العام، فصارت عائلته بعض الأمة. ثم إنه كأي عظيم الإيمان، استقبل فجيعته بفقد وحيده استقبال الصابرين المسلِّمين بقضاء الله »الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون«.
لعله الوجع والآمال العراض تتهاوى عندما غاب جيل القضية من الكبار وآل الأمر إلى الصغار في أحلامهم وفي مواقفهم وفي مباذلهم من »رجال آخر زمن«، فتقاعسوا وتاهوا عن فلسطين والوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية: لا هم بقوا في الميدان يواجهون العدو الإسرائيلي والقوى الدولية المساندة، ولا هم حفظوا تراث الرواد الذين قاتلوا حتى النفس الأخير دفاعاً عن العروبة وحق أوطانها في التحرر وفي المنعة وفي الرخاء، ولا هم حموا الشعلة متقدة لكي تهدي من بعدهم وتعوض عن تقصيرهم.
في بيته العريق في العبادية، دار بنا مرة يستعرض »الزمن الجميل«: كان جمال عبد الناصر يحتل الصدارة بين الصدر وفي الذاكرة وفي القلب كقائد لمسيرة عظيمة انتكست عند باب النصر، ثم تلبثت تنتظر من يكمل الإنجاز.
مع خبر النعي الذي جاءنا من قلب صمت الرجل الكبير الذي كان يغيب عن التوافه والعاديات ولكنه يفاجئك كالفرح في اللحظات الحاسمة وفي المواقف التي تصنعها رجولة الرجال، وجدتني أردد مشفقاً على الأرجح : »أدّيت قسطك للعلى فنم..«.
وسنواصل التعب بعدك وتحت الرايات التي لا بد سترفع مرة أخرى ذات يوم، وسيكون اسمك بين قلة حفظوا لها شرفها فلم ينكسوها ولا وهنوا.

Exit mobile version