طلال سلمان

عرفات يفاجئنا انة بشري

مرة أخرى يفاجئ ياسر عرفات شعبه والعالم: إن الرجل الذي تعوّد أن يعيش في قلب الموت حتى اعتبره الناس صنفاً خاصاً من »المخلدين«، هو في حقيقة الأمر بشري كما سائر الخلق، يأكل ويشرب ويسهر وينام، يتعب ويمرض ويفرض عليه أن يخضع للعلاج وأن يدخل تحت رقابة صارمة من أطباء يحاولون أن يحفظوا له حياته، أو ما تبقى منها، بمخالفة إرادته وأوامره ورغباته.
خرج ياسر عرفات، أمس، من الأسطورة التي صنعها لنفسه بنفسه، والتي ساعدته الظروف على السكن فيها، لا هي تغادره ولا هو يغادرها، فإذا بهذا الجبار في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، العبقري في المناورة، المنتصر على التناقضات بالبديهيات وعلى البديهيات باللعب على التناقضات، المقاتل في ألف ميدان معاً، قائد كل القادة والمحرّض على كل القيادات، الإسلامي بين القوميين، القومي بين الكيانيين، الأممي بين العرب، المزايد بين المناقصين، المتنازل وهو يظهر التشدد المتساهل متى تصلب خصمه ليكشفه، المساوم حتى إذا حانت لحظة التوقيع خرج من صدر »أبو عمار« ذلك »الداهية« الكامن، شاهراً سلاح رفض التوقيع بالإذعان، وجفّت الأحبار في أقلامه الستة بألوانها المتعددة، والتي لكل لون دلالاته وإيحاءاته والتي تعبّر عنه تماماً: فلا لاؤه لا دائماً ولا نعمه تعني الموافقة حتماً.
خرج ياسر عرفات من الأسطورة فإذا هو بشري متهالك الجسد، استنزفه الحصار الإسرائيلي بأكثر ممّا أرهقته المقاومة، وأمرضه افتقاده نور الشمس والهواء النظيف أكثر ممّا أمرضه عناد شارون، وأقلقه صراع الخلافة أكثر ممّا أرهقته المواجهة المفتوحة على الأرض التي تسحب من تحت قدمي سلطته، كل يوم.
لقد حاول ياسر عرفات أن يكون فلسطين. وكاد أن يكونها، بضعفه وصلابته، برفضه وقبوله، بتنازلاته واستعصاءاته على التنازل، بصداماته مع »الخارج« العربي ومع »الداخل« الفلسطيني.
لكن فلسطين ظلت دائماً أكبر منه، حتى عندما ألغى التنظيمات والقيادات والحركات والجبهات والمنظمات، بشخصه وحده، فكان »فتح« دائماً، و»الشعبية« أحياناً و»الديموقراطية« غالباً و»القيادة العامة« في بعض الحالات و»حماس« عند الضرورة و»الجهاد الإسلامي« في حالات الصد الإسرائيلي.
ظلت فلسطين أكبر منه وممن حاول أن ينافسهم أو أن يبعدهم عنها، من الناصريين والبعثيين، إلى الماركسيين، ومن »الإخوان« إلى »الكيانيين« ومن الفتحاويين إلى خصوم فتح، ومن »النفطيين« إلى العقائديين ومن المتأمركين إلى المستعربين…
لكنه كان الأقرب إلى المثال، بالصح فيه وبالغلط.
حتى في مرضه واشتداد علته عليه فإنه يكاد يتماهى مع حالة فلسطين اليوم، المنهكة بالاحتلال كما بغموض المصير، المستوحدة بانفضاض الإخوة عنها قبل الأصدقاء، المتعبة بحصارها، الذي تشارك فيه أنظمة الهزيمة فتضيف التخلي إلى التعنت الشاروني، فإذا فلسطين وحيدة، مبعدة عن القلب وعن العين كالبعير الأجرب، من تعاطف معها خاف من أن يُدان بالإرهاب، ومن كان يمدها ببعض المال خاف على ماله فقدمه عليها.
ياسر عرفات البشري مريض، يقاوم بجسده الضعيف الموت…
لكن فلسطين المنهكة بالاحتلال وبضعف قدرات المقاومة وبالتخلي العربي، صامدة، قوية بأهلها، جبارة بتضحياتها التي بلا حدود، وها هي تمضي قرنها الأول في المقاومة فلا تموت.
وهي اليوم، ومهما أصاب عرفات، ستبقى أقوى من الموت، وهي من منح عرفات القدرة على المقاومة، وستبقى ولاّدة، لا دمها ينضب ولا إرادتها تنكسر ولا يجف نهر رجالها المتقدمين لافتدائها بأفئدتهم.

Exit mobile version