(أعتذر إن تبدّى كأني أكتب عن فرح عائلي، وإن كنت أرى أنني أسجل تجربة إنسانية رائعة)
ضع الاسمين معاً هشام وحنان ، فإذا الفرح الآتي من رحم الصعب يستدعيك بالزغاريد المغسولة بدموع الصبر والإيمان، ويدفعك إلى حلبة الرقص لتكون شريكاً في انتصار الحياة بأبناء الحياة.
إنه عرس فريد في بابه: بين الحب والإرادة.. وأما الفرح فمشاع مفتوح بامتداد الشاطئ والبحر وفضاء الليل، ونجومه هن بطاقات الدعوة لمن يرغب في أن ينال من بهجته نصيباً.
هشام وحنان والحب يتقطر ندى معطراً وينتثر على الذين جاءوا تتقدمهم قلوبهم إلى هذا العرس الذي كان خلف التمني. وها هو أبو يحيى يرف على الجميع بشاربي الصقر، وقد اقتحم الحلبة عاصفة من النشوة تحف به باقة من الشبان والصبايا يتطايرون عصافير ملونة ثم يتكاتفون وقد استعادوا بإيقاع الأقدام صور الفرسان الذين لم نعرف منهم وعنهم غير الحكايات التي حوّلها القِدَم إلى مجرد رسوم على الجدران المهدمة للقلاع التي كانت حصوناً ولم تترك منها الريح إلا ركاماً لفرجة السياح، كما بعلبك.
أما هشام الذي استولدته الإرادة ممثلة بالأم والأب والأخت معاً، من قلب الاستحالة، ثم أعاد الحب الذي اتخذ وجه حنان خلقه من جديد فتى مبدعاً ومنتجاً، ما خلّصه من آفة الشفقة، فها هو يختال راقصاً بالسيف، يسابق عمراً فيكاد يسبقه نحو هودج عروسه التي انبثقت في سماء حياته كالأمنية فقرّبته من الاكتمال وقرّبها من الحلم فأمسكته وجعلته بيتاً للسعادة.
وأما حنان التي لا تعرف هل عقلها أكبر من قلبها أم إرادتها أكبر من الأصغرين ، فقد فازت في امتحان الصعوبة: قرّرت فصبرت، وتحمّلت الصد ومحاولات الهرب منها.. وابتسمت لنظرات الإشفاق وللتعابير التي حاولت أن تسخر من إصرارها على الانتصار في معركة لا تملك من الأسلحة لخوضها إلا الإيمان وإلا الود وإلا ذلك الفائض من قلبها حيث تمتزج الأم بالأخت بالحبيبة بالصديقة، فإذا هشام يهتدي إلى طريقه الذي أنارته عينا حنان ووقفت عليه حارساً يمنع السقوط ويساعده إن تعثر على النهوض من جديد لإكمال المشوار.
النجوم يتعلمن الدبكة البعلبكية
لوّن الفرح?????????????? الليل بالأهازيج التي تخشوشن فيها أصوات الرجولة فإذا الصبايا يتمايلن كأغصان الياسمين المثقلة بابتساماتها الحيية ???????????????????????????????????????????????????????????????????البيضاء.
صارت حلقة الرقص حلقات، وفاض الفرح عن المكان، فسرى في الشوارع والفضاء وركب الموج إلى البعيد، واختطفت طائرة عابرة بعضاً منه فوزعه قائدها على ركابه الذين سدت عليهم السياسة أبواب الرزق وودعهم الأهل الذين أنشأوهم بسهر العيون، وتنهدوا وهم يتصورونهم يبنون بلاد الغير، بينما بلادهم تخسر ما شيد فيها ولم توفَّر له أسباب الحماية.
صارت النشوة أمواجاً..
حملت الأمواج صور الفرح فنثرتها على امتداد الشاطئ، ثم توغلت بها بعيداً، فأيقظت النوارس التي رفت بأجنحتها مرتين، تحية، ثم جعلت من النغم الشجي أسرّة وعادت إلى النوم.
وعندما صدح ملحم زين الذي جاء يغني حبه لرفيق الصبا الأول بصوت المطرب، تغامزت الصبايا ثم اندفعن إليه، بينما تدلت النجوم مقتربات من حلبة الرقص يردن أن يأخذن دروساً في الدبكة البعلبكية.
من عاش الفرح استغنى عن اللغة
الفرح مَعين عظيم للثقة بالنفس ولتوكيد الحضور الفاعل.
ها هو العريس يختال فوق حلبة الرقص، عروسه السيف وعقله أقوى من لسانه.
ها هو الآن يخبر غيره بما لم يكن يعرفه أو يفهمه، فيصيرون أكثر وعياً بعالمهم وما يجري فيه.
كان زملاؤه حزبه، يحيطون به وقد استمدوا من فرحه الجرأة على قهر الإعاقة. إنهم الآن يعرفون كل شيء. يفهمون كل ما يقال حتى لو لم يسمعوه. من عاش الفرح بقلبه لم يعد بحاجة إلى اللغة. إنهم الآن يعيشون معه شبابهم. إنهم الآن يفهمونه بعقولهم. إنهم الآن يحضنونه بقلوبهم ويعرفون أنهم يقدرون، وأن حياتهم لن تتوقف ولن تتعطل بالإعاقة. إنهم يسمعون بمشاعرهم. إنهم يفهمون بعيونهم.
ها هي حلقتهم تنثر الفرح على الآخرين الذين يتابعونهم بمزيج من الدهشة والسعادة الغامرة. الحب هو اللغة الأسمى.
إنهم، مثله، يسمعون بقلوبهم. إن مشاعرهم مرهفة تلتقط الرسائل من العيون، من ملامسات الأيدي، من حركة الشفاه، من حرارة الإحاطة. إن هشام فارسهم وعريسهم. وهم يتركون لحنان منزلة هي مزيج من ولي الأمر والأخت والمرشد. إنها المترجم والناطق بلسانهم وقائدتهم في الرقص…
المنتصر بإرادته على قدره معلماً
الفرح شباب… حتى الكهول يستعيدون شبابهم، وإن كانوا يخافون الحركة السريعة للفتيان، التي تخرج عن الأصول وتحركهم: فلا هم يستطيعون أن يدخلوا المباراة معهم، ولا هم يقبلون الخروج من ساحة التحدي. وهكذا فإن الحلقة تصير حلقتين: واحدة للأصوليين الذين يهتمون بالخطوات الأكاديمية وتميد صفوفهم بالنشوة من دون مخالفات للكلاسيك؛ وأخرى لأولئك الذين يتركون أجسادهم لفرحهم، صعوداً وهبوطاً وقفزاً عالياً في اتجاه النجوم، حيث يفترضون أن الفرح يستقر فوق.
ها هما العروسان الآن قلب الحلقتين، إليهما يتوجه الغناء، ومنهما ينبع الطرب.
أما العروس التي تفرح بقرار، وترقص بقرار، وقد اختارت حياتها بقرار، فإنها تمسك بالتفاصيل جميعاً، وتتابع كل ما يجري، فترى كل ما يدور أمامها وخلفها، عن يمينها وعن يسارها، تنتبه إلى من وصل حديثاً، ومن لم يجد مقعداً، تطير حين يجذبها أبو يحيى إلى عالم النشوة مستدعية هشام إليها كي يصيرا فراشتين محمولتين على جناح السعادة بتحقق الأماني.
وأما العريس الذي انتصر بإرادته على قدره، وتغلب على إعاقته، فها هو يزهو بحبه الذي عوّضه تعب الأيام التي كان فيها سجين وحدته وعجزه عن التواصل.
لقد قلب مشكلته، بدأب الأهل، وذكائه وعناده وإصراره على كسر الاستحالة، إلى موهبة: وها هو يطل عبر شاشة التلفزيون ليخبر مَن لا يسمع ماذا يدور في العالم من حوله… بل هو قد طوّر موهبته فأنجز قرصاً مدمجاً للصم والبكم، يعلمهم بلغة الإشارة كل ما يجب أن يعرفوه عن حياتهم ودنياهم..
الطفلة صارت حواء .. وآدمها في الإقامة الجبرية!
تفتحت في قلب الليل ورود النهار، واحتلت الصبايا الحلبة.
متى كبرن إلى هذا الحد؟ متى صارت الطفلة أميرة تخطُر بجمالها فتتابعها العيون بكثير من الشغف. صارت كل منهن حواء كاملة، تغوي وتغري بالغواية. ترقص وتراقص وتختار الشريك فتستدرجه وتفرض عليه الإقامة الجبرية في محيط إشعاعها.
كبرت الصغيرات.
حتى اللواتي كن طفلات تطاولن فجأة فإذا هن رفيقات بل منافسات لأمهاتهن. طفرت صدورهن وأسدل الحياء حمرته على وجوههن وهن يتلقين النظرات الولهى للفتية الذين يدرجون على طريق الهوى والشباب والأمل المنشود.
عريِّس عريِّس، مد الكف واتمنى .
سَحَت دموع الأمهات والآباء عندما انطلق ملحم زين بنغم الشجن المدخر للحظة وداع الأهل والانتقال إلى الحياة الجديدة:
عريِّس عريس، مد الكف واتمنى .
ذهبت أيام الحنة بتقاليدها الطريفة والمبهجة، بقي منها الرمز واللحن الشجي.
اتصل الليل بالبحر. تداخل الراقصون والراقصات. امتلأت الحلبة حتى آخرها، وتكوّنت في داخلها حلقات حلقات… وغاب ضابط الخطوات. ليس للفرح حدود وليس له ضوابط ما دام مشاعا لكل فيه نصيب.
أكتب إليكم بالعسل
قبل أن يركب وعروسه الطائرة إلى العسل، مد هشام يده برسالة يروي فيها حكايته:
حكم عليّ القدر بفقدان السمع. وكان يمكن أن أستسلم لقدري وأستكين في قلب علتي أمضغ حسرتي وحيداً. لكن والديَّ كانا عنيدين. دارا بي على الأطباء في الداخل والخارج؛ على المؤسسات التي ترعى أمثالي. وفي مدرسة الأب اندريخ تغلبت على طلاسم الحروف. وبرغم سوء الفهم وسوء المعاملة وسوء التصرف الذي جبهني به مجتمع الأصحّاء ، فقد قاومت. قاومت الإشفاق والعطف والتعامل غير الصحي معي كمعاق. وبعد فترة من الضياع والقلق اهتديت إلى فكرة استحوذت على كامل اهتمامي حتى حوّلتها إلى واقع. قرّرت أن أساعد نفسي وزملائي ورفاقي من الصم بما ينفعهم للخروج من ليل الصمت الذي يبقيهم خارج دائرة الحياة. درست لغة الكومبيوتر حتى أتقنتها. ثم أنتجت قرصاً مدمجاً بلغة الإشارة. كذلك نجحت في الحصول على وظيفة مقبولة في مساعدة المعوقين.
ها أنا الآن في شهر العسل مع عروسي التي أحببت حنان ، نتطلع إلى بناء بيت سعيد يزيّنه أطفالنا الذين سيفيدون من تجربتنا بأن الإرادة مع الحب تصنع المستحيل إذا ما تعززت بالصبر والإيمان .
هذه رسالة الفرح التي أراد هشام أن ينشرها تحت رقابة حنانه طبعاً لتصل إلى الناس.
مبروك لهذين الشابين اللذين أعطيانا ليلة فرح نتمنى أن تمتد لهما كل العمر.. وكذلك فقد سمحا لنا بأن نستعير من الروائي السوداني المتميز الطيب صالح عنوان روايته الممتعة عرس الزين .
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
من حبس حبه في صدره كان كمن يعاقب نفسه من دون أن يعطي الآخرين فرصة لمساعدته.
ليس في الحب ما يُخجل، فأَعلن حبك يحمِك أكثر الناس بحبهم للمحبين. أما الذين لم يعرفوا الحب قبلك فلن يعرفوه معك حتى لو أعطيتهم منه نصيباً.