طلال سلمان

عرب وحرب عدالتين

لا يحتاج العرب إلى جهد كبير ليبقوا خارج هذه الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية ضد ما أسمته »الإرهاب الدولي« وأعطته عنوان أسامة بن لادن في أفغانستان… فليس للعرب موقع »الحليف« حتى لو طلبوه، ولا هم في موقع »المتورط« مهما تزايدت التلميحات والإيماءات والتهديدات الضمنية لبعضهم، فذلك يهدف إلى الابتزاز السياسي والاقتصادي أولاً وأخيراً. والعرب، ومنذ عقد من السنين، على الأقل، هم ضحايا هذا الابتزاز الأميركي فضلاً عن كونهم ضحايا الإرهاب الإسرائيلي المفتوح.
والالتباسات التي ألقت بظلها على العرب (والمسلمين) فأحرجتهم عبر الاستغلال الإعلامي الواسع النطاق لأسماء منفذي التفجيرات وهوياتهم سرعان ما تبيّن أنها بعض نتائج ما تحفل به هذه الحرب الفريدة في بابها من مفارقات لم يحدث أن اجتمع مثلها في حدث هائل كالذي شهدته الولايات المتحدة وهز العالم كله، ليس فقط بعدد ضحاياه وحجم خسائره، بل كذلك بتداعياته السياسية التي نعرف الآن كيف بدأت، لكن أحداً لا يعرف إلى أين ستصل وكيف وبماذا ستنتهي.
} بين هذه المفارقات:
أنها حرب كونية مفتوحة ضد »الإرهاب الدولي«، كما يعلنها الأميركيون، مع أن بطلها المعلن والمُدان سلفاً والمطلوب حياً أو ميتاً هو فرد واحد يرئس تنظيماً سرياً من بضعة آلاف (؟) من الأنصار الأشباح الذين تصعب معرفتهم ويصعب تحديد أماكن وجودهم، ويكاد يستحيل التنبؤ بما يعدون له من »عمليات« في سياق مقاومتهم لما يرونه »إرهاباً أميركياً« للشعوب (لا سيما الإسلامية منها) ويعطفون عليه الإرهاب الإسرائيلي لشعب فلسطين خاصة وللعرب عموماً.
فأما الطرف الأول، الأميركي، فهو محدد تماماً، ومعروف جداً، وعلني تملأ صور حركته العسكرية بحاملات الطائرات والمدمرات وقوات النخبة الفضاء وتحتل خطاباته اليومية وتصريحات قياداته السياسية والعسكرية شبكات التلفزة في أربع رياح الأرض، خصوصاً أن »الإعلام« هو بين إنجازاته الأخطر، كسلاح لا راد لفاعليته وتأثيره الذي قد يعيد صياغة العقل والمنطق ومن ثم الموقف.
وأما الطرف الثاني فأقرب إلى »الشبح«. فأسامة بن لادن ليس »طالبان« تماماً، وطالبان ليست أفغانستان تماماً، فضلاً عن أن أفغانستان ليست »الإسلام« وإن كان شعبها من المسلمين.
وبن لادن المُسقطة عنه جنسيته السعودية، بعدما تنازل أهله عن جنسيتهم اليمنية، هو »أممي« بالعقيدة وبالمسلك وبالهوية التي اختارها لنفسه. لا هو دولة، ولا ينتمي إلى دولة بالذات، وليس لتنظيمه »القاعدة« قاعدة ثابتة، ولا لتنظيمه جسم محدد، وكل ما يتصل به تتداخل فيه الأسطورة مع الواقع بقدر ما تتداخل المطامح السياسية برؤى دينية تتماهى فيها أحلام العودة إلى الينابيع وإصلاح ما فسد في »عالم الكفار والمشركين« مع أوهام الادعاء بأنه المكلف بإتمام الرسالة وإكمال الناموس وقيادة العالم… سياسياً!
الطرف الأول هائل الغنى، هائل القوة، يغرف من أعظم كنوز المعلومات في العالم. لديه أقوى أجهزة المخابرات، الداخلية والخارجية، أقوى الجيوش، أقوى اقتصاد في التاريخ. وهو الأعظم تقدماً في مجالات العلوم والثورة التقنية، والأغنى بمراكز الدراسات ومعاهد الأبحاث، وفيه تجمع أعظم حشد من العلماء والمخترعين والمكتشفين والبحاثة، كما لم يحصل في أي مكان أو زمان.
أما الطرف الثاني فيعيش في بيداء السلفية، في بلاد معزولة بالجغرافيا وبالسلطة وبالجهل وبالفقر، حتى لتبدو وكأنها خارج التاريخ. وهنا تتجلى مفارقة أخرى: فالتاريخ يحمل بصمة أفغانستان على بعض أهم تطوراته المعاصرة، إذ فيها كتب الفصل الأخير من ملحمة سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي.
الطرف الأول معزز بتحالف يضم، ولو في ظاهره، معظم دول العالم، بالرضا أو بالإكراه لا فرق.
أما الطرف الثاني فليس بلا حليف فحسب، بل يكاد ينكره »أهله«، سواء في أفغانستان أو في باكستان، فضلاً عن السعودية وسائر العرب وسائر المسلمين.
}} وبين هذه المفارقات:
أن الولايات المتحدة قد اتخذت لحربها شعار »النسر النبيل«، في حين كاد أسامة بن لادن يقدم نفسه في صورة »المنقذ من الضلال«.
وفي حين قرّر جورج بوش أن هدفه من إطلاق »النسر النبيل« هو تحقيق »العدالة المطلقة«، متخطياً كل الحدود، فإن أسامة بن لادن يرى نفسه منتدباً من السماء لتحقيق العدالة الإلهية، وأيضاً بغير الاعتراف بأية حدود.
وإلى ما قبل تورط جورج بوش في بعض أغلاطه الشنيعة، وأبرزها إشارته إلى »الصليبية« كان التطرف في الشعار والدعوة (قبل أن تصل إلى العمل) حكراً على أسامة بن لادن.
أما بعد التفجيرات فقد تجاوز جورج بوش بالغلط، في تحديد الخصوم كما في تحديد الحلفاء، حركة طالبان وأسامة بن لادن وعلماء الأفغان جميعاً، بما أحرج حلفاءه وأغرق إدارته في إشكالات أورثت خلافات خرجت إلى العلن، معيدة إلى الأذهان صورة بوش غير المؤهل، والمرتبك، والذي لا يعرف الحد الأدنى من المعلومات عن شؤون المعلومات.
وكان من بين النتائج أن تبدى بن لادن في صورة »القائد« السياسي و»العقائدي« الصلب، إضافة إلى »المخطِّط« الدقيق و»المنظِّم« الممتاز… وكان بين ما زاد في مكاسبه حصيلة ما خسره خصمه الجبار بدولته المتهافت بشخصيته.
}}} وبين هذه المفارقات:
أنها حرب تجري على الحافة، تماماً بين النقيض والنقيض.
هي حرب على الحافة بين »الدولة العلمانية« التي حاول رئيسها توثيق تدينها باللجوء إلى الصلاة، وبين »الدولة الدينية« التي حاولت تقديم نفسها كقيادة سياسية لعالم الألف ومئتي مليون مسلم لمقاومة »الصليبيين الجدد«.
وهي حرب على الحافة: فمن اتهموا بتنفيذ التفجيرات يتحدرون بأكثريتهم المطلقة، حسبما أعلن، من أرومات عربية، لكن البلدان التي يحملون جوازات سفرها تحاول جهدها أن تتنصل منهم.
وفي حين حاول المنفذون أن يوصفوها بأنها بعض الحرب لأجل فلسطين وقدسها الشريف، فإن الأميركيين يجهدون لإبعاد إسرائيل عنها، ولو بفرض »هدنة قصيرة« تسمح بضم العرب إليها من غير أن يدمغوا بأنهم يحالفون »عدوهم« وعلى أرض الإرهاب ضد ضحاياه من أهلهم الأقربين.
فلا حدود فاصلة، أميركياً وإسرائيلياً، بين المقاومة والإرهاب.
لكن مثل هذا الفصل ضروري لتمكين العرب من تخطي الحاجز النفسي الحائل دون التحالف في حرب يعرفون أنهم سيكونون بين ضحاياها وليس بين من يقطف ثمار النصر فيها، وأن إسرائيل ستكون في طليعة الرابحين، كما في محصلة الحرب ضد العراق.
إنها حرب لا مجال فيها لانتصار فوري وحاسم. والحرب المكلفة مرفوضة، والأميركيون يتعجلون الانتقام.
لكنها حرب تجري فصولها بين السماء والأرض، بين الدستور والشريعة، بين الكونغرس ومجلس العلماء، بين الجيوش المدججة بأفتك الأسلحة والمبشَّرين بالجنة، بين الحلفاء الشركاء في المصالح ومصالح الشركاء المختلفين كثيراً على الأرض والمرجئين النقاش حول السماء.
* * *
يتقدم الأميركيون بخطى سريعة نحو الحرب »الكونية« التي تكاد تلخص بشخص واحد.
ويحاول العرب أن يحتفظوا لأنفسهم بموقع الصديق لأميركا بغير أن يلبسوا ثياب الحرب ضد »مجهول« يدعي صلة القربى بهم، بينما هم قد امتنعوا عن ارتداء هذه الثياب ضد »عدو« معلوم يقاتلهم ويقتلهم فوق أرضهم… بل ان بعضهم قد خلع هذه الثياب وفر من الميدان متجاهلاً صرخات الاستغاثة التي يطلقها »بنو أمه«.
لقد ذاقوا مرارة »التحالف الدولي« مرة في الحرب لتحرير الكويت من غزوة صدام حسين، فكانت النتيجة أن خسروا العراق بغير أن يستعيدوا الكويت أو تستعيد الكويت نفسها،
بل أن بعضهم قد طلب »التحالف« مع الأميركيين حتى في البلقان، فلا هو كان هناك بين »المنتصرين« ولا نال في فلسطين ما كان يوهم نفسه أنه سيربحه كمكافأة، ولا هو نصر »الإسلام« حيث كانت المعركة بين »قوميات« ومصالح دولية متشابكة ليس له فيها موطئ قدم.. فهو طارئ دائماً.
إنها حرب مموهة جيداً، بشعاراتها وأهدافها وميدانها المفتوح باتساع العالم.
لكن المؤكد، ومهما بلغ الإتقان في التمويه، أنه لا مكان للعرب فيها.. إلا في موقع الضحية، وهو موقع ألفوه واستكانوا إليه وفيه، وقد آن لهم أن يحاولوا الخروج منه.

Exit mobile version