طلال سلمان

عرب جميعا امام محكمة دولية

بات العالم يتحدث عن «العرب» بصيغة الماضي! فمن أجل السلطة في الحاضر دمّر أهل النظام العربي مستقبل الأمة، وتسبّبوا في إشعال مجموعة من الحروب الأهلية اللاغية لهوية أقطارهم، فانشغل كل شعب عربي بهمومه الثقيلة، ناظراً بعين الشك والريبة إلى أشقائه من جيرانه الأقربين، مفترضاً أنهم إنما يستفيدون من نكبته… وكل ذلك بتحريض مكشوف من أهل النظام فيه.
بديهي والحال هذه أن تسقط عن العدو الإسرائيلي ملامح العدو، وأن يصير طرفاً له حق الرأي في الشؤون الداخلية لأي نظام عربي، باعتباره شريكاً في المسؤولية عن أمن المنطقة التي يطمح الآن لأن يكون «سيدها» تحت المظلة الأميركية، خصوصاً وقد باتت له في البيت الأبيض في واشنطن الكلمة الفصل مع الرئيس الأسمر.
فأما في لبنان فليس جديداً القول إننا نعيش داخل حرب أهلية مفتوحة منذ ست سنوات، وإن كانت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري قد أجّجت نيرانها فامتدت ألسنتها لتشمل أنحاءه جميعاً بطوائفها ومذاهبها، مستدعية نجدات سريعة من أهل النظام العربي ومن «الدول» تحت القيادة الأميركية، ومن ضمنها بطبيعة الحال، إسرائيل.
ليس التحقيق الدولي في الجريمة إلا إعلان وصاية دولية على لبنان، وبالتالي فإن ما نتج عنه لم يكن إلا بمثابة توسيع دائرة الحريق إلى جواره السوري، وتحريض اللبنانيين بعضهم ضد البعض الآخر إلى حد الافتراق في الموقف حتى إزاء الحرب الإسرائيلية في تموز 2006… ومن ثم حول إسرائيل ذاتها، بحيث بات طلائع عملائها قادة مبرزين في الحاضر والمستقبل!
لم يعد «العدو» واحداً، وكانت تلك نتيجة طبيعية لكون الشعب المفترض واحداً قد تشطّر إلى طوائف متواجهة ومذاهب مهتاجة تكاد تندفع إلى الاقتتال، مسقطة كل ما جمعها بالتاريخ والجغرافيا والمصلحة وروابط القربى والمصاهرة والغد الذي يكون واحداً أو لا يكون أبداً…
صار الانهيار في لبنان قرار اتهام ضد العروبة، ومحكمة دولية لمستقبل الأمة جميعاً… فلكل ما نتج عن الجريمة، حتى اليوم، وما «يتنبأ» به «العرافة» الدولي، ولو بألسنة وأقلام محلية أو «عربية»، وإن ظل أفصحها «الإسرائيلي»، قد أصاب مقتلاً في وحدة لبنان، شعباً ودولة ومقاومة، وأصاب سوريا شعباً ورئيساً وجيشاً، في حين أن هذا الناتج كان ـ بالمطلق ـ لمصلحة إسرائيل والإدارة الأميركية وفرنسا باعتبارها وكيلاً محلياً لواشنطن في بيروت.
لم يلحق بإسرائيل أي أذى، بل جاءتها المنافع والتبريكات والتبرئة المجانية، من دون أن تطلبها، بل لقد قبلها البعض في ما يتجاوز دور الشاهد بالعدل إلى المحقق المنصف والقاضي بالعدل!
ولم تصب المصالح الأميركية بأية أضرار، بل لقد وجدت فائضاً في المتطوعين لحمايتها والدفاع عن تعاظمها «لإنعاش الاقتصاد المأزوم» في الوطن الصغير المهدد في مستقبله.
ولم ينقص حجم النفوذ الفرنسي، على وجه الخصوص، بل لعله قد تعاظم مع افتراض البعض افتراق «العهد الجديد» في باريس عن سياسة شيراك الأميركية!
كذلك ليس جديداً القول إن فلسطين ـ القضية في طريقها إلى الاندثار، بعد مسلسل التنازلات التي ذهبت بجوهر القضية وأساسها المكين، ممثلاً في الأرض، ومكّنت للمنطق الإسرائيلي المعزز بالتأييد الأميركي المفتوح لإعلان إسرائيل دولة يهود العالم.
ذهبت «السلطة» التي تمثل خلاصة ما في النظام العربي من ترد وتسليم بالأمر الواقع، مهما كان مهيناً، إلى التفاوض العبثي وهي تعرف النتيجة سلفاً. كانت محاطة بالأضعف والأرخص من أهل النظام العربي والنص الأوضح في استسلامه أمام المطالب الأميركية ـ الإسرائيلية… فكانت النتيجة اعترافاً عربياً صريحاً بإسرائيل دولة يهود العالم، من دون أن يوقف نتنياهو الذي يكاد يصنف «صديقاً كبيراً» لأولئك الأهل، بناء المزيد من المستوطنات أياماً، حفظاً لكرامة من سفحوا كراماتهم على أعتابه.
وهذا طبيعي تماماً… فالإسرائيلي يعرف، قبل الأميركي وأكثر منه، أن هذه «السلطة» لا تمثل، فعلياً، شعبها الفلسطيني، المنقسم على ذاته والمقسم نتيجة الاحتلال الإسرائيلي والتخلي العربي بين «سلطتين» تأخذانه إلى الحرب الأهلية، وليس إلى التحرير، وبالتالي إلى التفاوض من موقع القوة الذي تتيحه له قضيته المقدسة.
وليس جديداً، أيضاً، القول إن العراقيين يعيشون (بل يموتون) في قلب أتون الحرب الأهلية، بعدما أورث الطاغية الاحتلال الأميركي العراق مدمراً، مستنزف القدرات، يعيش ذل العوز وهو العائم فوق بحر من النفط…
وها هي القيادات العراقية العتيقة، ومعظمها عائد من المنفى، إما فوق دبابات الاحتلال الأميركي، أو بشفاعة النفوذ الإيراني، أو بالصفقات الهادفة إلى إضفاء شكل من أشكال الوحدة الوطنية على مشهد الانسحاق تحت طغيان المحتل، الذي أكد جدارة استثنائية في النهب المنظم لخيرات هذا البلد العربي الهائل الثروات، تعجز عن تشكيل حكومة، مع وعيها بأن حمّام دم هائل الأبعاد يتهدد أرض السواد وما جاورها من أقطار عربية مارست أنظمتها الاضطهاد وميّزت بين رعاياها على أساس الولاء للأسرة وليس للوطن… فالفتنة عمياء، ولكنها تتمدد تلقائياً في الهشيم المتروك للريح، خصوصاً متى كان مشعلوها هم أصحاب القرار فيها، وهم من يتلقون الرعاية والدعم، فضلاً عن تمتعهم بحماية القواعد الأميركية، برية كانت أو جوية أو بحرية أو كل ذلك معاً.
إن ألسنة نار الفتنة تطل من البحرين، وتجد من ينفخ فيها في الكويت..
أما اليمن فيبدو أنها قد انزلقت إلى فتنة من طبيعة معقدة يختلط فيها المذهبي بالسياسي بالجغرافي بمطامع الجوار المزكي للنزعة الانفصالية.
الطريف أن «الطبيب المعالج» في هذه الحالات جميعاً هو المستفيد الأول من التلويح بنار الفتنة، أو النفخ فيها، ليفيد ليس فقط في فرض حمايته بالطلب، وإنما كذلك لبيع دول أهل الثروة في شبه الجزيرة العربية كميات هائلة من الأسلحة التي لا تعرف كيف تستخدمها، فضلاً عن أنها لا تنفع كثيراً في حروب المذاهب، وإن نفعت ـ ربما ـ في إلحاق أذى بالغ بالعرب والمسلمين جميعاً. إنها كمن يقصف جاره بقنبلة ذرية فيكون الدمار عنده كما عند الجار، بل ربما أشد، خصوصاً إذا كان حديث العهد بأسلحة الدمار الشامل!
هنا أيضاً يطل طيف إسرائيل باعتبارها المستفيد الأول من هذه «الفتنة الكبرى» وقد تجددت بأوامر صريحة من الخارج (غير المسلم) ولمصلحة الخارج (الذي طالما قاتل العرب عندما لاح احتمال أن يصيروا أمة قوية وقادرة على بناء مستقبلها بإرادتها الحرة.
… وبالتأكيد فإن مثل هذا المستقبل كان ممكناً بناؤه اليوم لو أن أهل النظام العربي يؤمنون بشعوبهم وبحقها في حياة كريمة أول شروطها الاعتراف بهويتهم الجامعة التي لا تقبل الجدل.
[ [ [
كل العرب أمام المحكمة الدولية، وليس لبنان وحده. فأهل النظام العربي لا يتورعون عن اتهام شعوبهم بالأخطر من الجرائم ليحاسبوا عليها ممّا يمكن لعروشهم ذات السلطة الإلهية!
لقد ذهب أهل النظام العربي بشعوبهم إلى محاكمة دولية سوف تدينهم من قبل، بل ومن دون أن تسمعهم، لأنها مجرد رعايا، لا رأي لهم في شؤون بلادهم وليس لأعدادهم أي حساب.
بإحصاء بسيط سنكتشف أن محكمة دولية ما تحاكم شعب مصر، وشعب السودان، وشعب اليمن، وشعب العراق، وشعب سوريا، فضلاً عن لبنان إلخ… وأن الأحكام تتجاوز أهل النظام العربي فتبرئهم، بل وتزكيهم على خدماتهم التي تتجاوز المعقول، فيكون ذلك حكماً إضافياً بإنكار وحدة شعوبهم وجدارتها بمستقبل يحفظ لها كرامتها مع الخبز.
[ [ [
لعلها الذكرى الأربعون لغياب جمال عبد الناصر قد حكمت السياق وأملت الاستنتاجات.
إن العرب اليوم بلا قيادة، تائهون عن طريقهم إلى غدهم، مساقون إلى مسلسل من الفتن والحروب الأهلية لا تنتهي.
في ظل هذه المخاطر تطل ذكرى القائد العربي الذي حاول فنجح أحياناً، وأخفق أحياناً، ولكنه أكد البديهة: إن هذه الأمة واحدة، تكون قوية بوحدتها وحرة في أرضها ومؤهلة في صناعة مستقبلها، أو تحاكم أمام «الدول» ويحكم عليها بخسارة حقها في الحياة، وتصير أرخبيلاً من الطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر المقتتلة إلى يوم الدين.
ولعل دولة يهود العالم اللاغية لفلسطين هي أول الطريق إلى ذلك اليوم الموعود.

Exit mobile version