طلال سلمان

عرب اميركا خارج سياسة

بعض المصادفات تكون، بالفعل، خيرù من ميعاد، ومنها هذه المصادفة المفارقة التي تتيح، هذه الأيام، لعرب أميركا أن يتحققوا باليقين من قيمتهم وأهميتهم للسياسة الأميركية الخاصة بمنطقتهم ومستقبلها،
فبينما يحتشد في نيويورك بضعة ملوك ورؤساء وأمراء ومشايخ ورؤساء حكومات ووزراء تفضح سمرة بشرتهم انتماءهم »القومي«،
… وبينما يتكأكأ معظم هؤلاء من حول الرئيس الأميركي بيل كلينتون، يلتمسون أن يظهروا في الصورة »العائلية« معه، أو يرجون موعدù للقاء بعض صغار الموظفين في إدارة الشرق الأوسط بالخارجية الأميركية،
… وبينما يتصرّف بعضهم وكأنه في بيته، وينطلق لسانه في تعظيم دوره في التأثير منفردù على القرار الأميركي سواء في الادارة أم في الكونغرس بمجلسيه،
في هذا الوقت بالذات تحتشد الأكثرية الساحقة من الكونغرس بمجلسيه لتضغط على الادارة من أجل التسريع في نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، متحدية بذلك »تهديد« الرئيس الأميركي كلينتون باستخدام حقه في النقض (الفيتو) للتمهل في مباشرة الخطوات التنفيذية لذلك الانتقال بالجغرافيا عبر التاريخ.
الكونغرس لا يطيق صبرù، ولا يرى ضرورة لمجاملة »السلام«، ومراعاة خاطر الأصدقاء العرب، خصوصù وهو يشهد طوابير الساعين منهم للقاء الإسرائيليين، داخل الكيان الصهيوني أو في مختلف العواصم، علنù وليس سرù الآن.
الموعد محدد، ومتفق عليه. لكن الكونغرس يريد استعجاله بأكثر مما يطلب أو يريد الإسرائيليون.
ومع أن الأسباب الفعلية لهذا الصراع الوهمي بين »الرئيس« والكونغرس انتخابية بمعظمها، إلا أن نجاح كلينتون في إرجاء تنفيذ النقل بات يكفي لتنصيبه »بطلاً عربيù«، إضافة إلى استمراره في موقع الصديق المتميِّز والاستثنائي لحكومة رابين الإسرائيلية.
* * *
ذهب بعض حكّام العرب الآتين من الثورة، إلى واشنطن، ملتحقين بخصومهم الملكيين و»الرجعيين«، مباشرة بعد حرب 1973، تحت شعار أنها تملك 99 في المئة من أوراق اللعبة، وأن الاقتراب منها والانخراط في مشروعها سوف يمنع عنهم أذى إسرائيل، أو أن ذلك قد يخفّف من انحيازها المطلق لإسرائيل، ويؤخر التماهي بين المشروعين الأميركي والإسرائيلي في المنطقة العربية.
لكن الوقائع جاءت وتجيء بحقائق قاطعة أبرزها:
أن العرب قبل هرولتهم إلى واشنطن وارتمائهم على أبوابها، كانوا أقوى في واشنطن،
كذلك كانوا، على ضعفهم، أقوى في وجه إسرائيل،
لم تكن بلادهم مباحة، سلمù، للقوة الإسرائيلية التي برغم تفوقها لا تملك أن تأخذهم جميعù بحرب خاطفة يشنها جيشها الذي لا يقهر،
وكانت أكثرية دول العالم تتهيّب أن تعترف بإسرائيل، أو أن تتمادى في علاقاتها الاقتصادية بها، أقله علنù، خوفù من المقاطعة العربية،
وكان حكّام المسلمين، بأغلبيتهم المطلقة يرفضون مجرد التفكير بالحديث مع الإسرائيليين فكيف باللقاء أو العلاقات معهم،
أما اليوم فالحكّام العرب، بمجملهم، بلا قيمة تقريبù في واشنطن،
وهم حتمù بلا قيمة في تل أبيب،
فكيف يمكن أن تكون لأمثال هؤلاء الحكّام قيمة في بلادهم، ومن أين ستأتيهم القيمة: هل من إنجازاتهم الديموقراطية، واستفتاءات المائة في المائة تجلجل بالمهانة والإذلال المتعمّد لرعاياهم المحطومين باليأس؟! هل بخططهم الصاعقة للنهوض الاقتصادي، أم بنجاحاتهم المذهلة في حلّ المعضلات التي تكاد تختنق تحت وطأتها مجتمعاتهم، أم برهافة حسّهم تجاه حقوق الإنسان؟!
* * *
ذهب حكّام العرب إلى واشنطن مهرولين وأنكروا تاريخهم ونزعتهم الاستقلالية وطموحهم إلى تحرير أرضهم وإنسانهم والسيطرة على ثرواتهم الوطنية،
لكن واشنطن أصبحت بعد »ذوبانهم« فيها »متطرفة« إسرائيليù، بحيث يشعر إسحق رابين بالحرج فيحاول التخفيف من هذا التطرف حرصù على »استقلاليته« وحقه في اختيار التوقيت الإسرائيلي المناسب له (انتخابيù) للقبول بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة.
القيمة السياسية، كالكرامة الشخصية، كإرادة التحرر لا تأتي بها البواخر أو الطائرات من الخارج ولا تُسقط على طالبها بالمظلات،
والذي يهرب من مواجهة إسرائيل الأميركية لن يستطيع التصدي أو مغالبة أميركا الإسرائيلية،
والذي يهرب من عروبته طالبù الأمان في تلافيف السلام الإسرائيلي لن تعصمه الرعاية الأميركية لذلك السلام، خصوصù وقد ذهب إليه قاصدù متعمدù، ولذاته وليس بوصفه نتاجù أميركيù صرفù،
لم يعد الطموح أن يكون حكّام العرب ثوارù أو قادة وطنيين،
بات يكفي في زمن البؤس هذا أن يملكوا الحد الأدنى من العقل ومن الحساب السياسي، ولو بالمعنى الانتهازي!
إنهم حكّام خارج السياسة وليسوا فقط خارج الوطنية!

Exit mobile version