طلال سلمان

عرب اليوم في قمة مختلفة

لا دليل ثابتا يدفع للاعتقاد في أن القمة التي تنعقد في نهاية هذا الأسبوع سوف تصنع قرارات ترمم ما تصدع من ثوابت أو سياسات تصحح ما تشوه من نوايا طيبة .  لا دليل ثابتا ولكن فيضا من آمال وكنوزا من طموحات تجعلني وكثيرين غيري ننتظر خيرا يطل علينا من أعمال هذه القمة بالذات، ليس فقط لأنها تأتي بعد سنوات ضائعة وخيبات أمل خلفت لنا نظاما إقليميا متدهورا ولكن أيضا لأنها تأتي في خضم تغيرات كبرى شملت متغيرات تبدأ بنظام القمة الدولية وتنتهي بأحوال كل دولة من دول الاقليم. بعض هذه التغيرات تجاوزت في حدوثها معدلات التطور المتدرج، وأهم نماذجها:

أولا: تغيرات في نظام توازن القوة عند مستوى قمة النظام الدولي.

شهدت نهاية القرن العشرين غياب الاتحاد السوفييتي كقطب دولي وتولي الولايات المتحدة مهام الهيمنة في النظام الدولي باعتبار انها صارت قطبا أوحد على قمة النظام. كان لا بد ان يكون النظام العربي، بحكم ضعفه، أول من يتأثر بهذا التغيير الجوهري في هيكل توازن القوى العالمي. واقع الأمر يشهد بأن السلوك السياسي للولايات المتحدة في كثير من الحالات السابقة على انفراط الاتحاد السوفييتي كان ينم عن اقتناع أمريكي، وغربي بشكل عام، بأن الولايات المتحدة  تحوز على حق التصرف كقطب مهيمن، حتى أن قادة عديدين دأبوا على إطلاق صفة القرن الأمريكي على القرن العشرين. أما التغير الجوهري في نظام توازن القوى الدولي الذي انعكست اثاره على أحوال السياسة الدولية بشكل عام ومن ضمنها حال العرب فكان عندما صعدت الصين صعودا  سريعا ومتتاليا وشاملا حتى احتلت واقعيا مرتبة القطب الدولي الثاني في نظام القمة.

كان لهذا الصعود والزيادة الكبيرة في حجم التعاملات الصينية العربية أثره المباشر في السياسات العربية الخارجية. لعله الأثر قريب الشبه بالأثر الذي أحدثه نظام القطبين خلال مرحلة الحرب الباردة. وقتها سارعت دول عربية كبيرة بانتهاج سياسات تمنحها قوة في التعامل مع القطبين وتفادي وصمة التبعية وتكلفتها الباهظة. نلاحظ هذه الأيام عودة لتبني هذا النوع من السياسات حتى من جانب دول عربية رفضت خلال الحرب الباردة سلوكيات الحياد وتمسكت بالانحياز للمعسكر الغربي. هذه الدول ذاتها تلتزم الآن سياسات تجاهر من خلالها بتمسكها بحقها في حرية قرارها السياسي الخارجي.

جدير بالذكر ان دول النظام الإقليمي العربي تنتمي في غالبيتها العظمى لجماعة دول الجنوب التي عاشت منذ الاستقلال تتعامل مع تحديات تراثية من نوعين، النوع الأول ويتعلق بتراث الاستعمار الغربي والثاني بتراث وبقايا نفوذ القوى العظمي الغربية والشرقية على حد سواء. مما لاشك فيه أن جانبا من الترحيب بالعلاقات مع الصين يجد جذوره في حاجة هذه الدول لممارسة سياسات تدعم جهودا تتحدي  بها ضغوط احد التراثين أو كليهما معا.

ثانيا: جوار أشد بأسا.

نشأ النظام العربي وقضى أولى مراحله في حماية الدول الكبرى المهيمنة عليه. من ناحية أخرى لم تتباين اختلافات هامة للقوة في منطقة الشرق الأوسط  إلا في مرحلة متأخرة من مراحل تكوين النظام العربي. ففي هذه المرحلة المتأخرة شهد النظام العربي تحديات خطيرة ناجمة عن اختلاف متزايد الاتساع في موازين القوة بين دول النظام العربي من ناحية ودول غير عربية في الجوار من ناحية اخرى. كانت إسرائيل، ولا تزال، التحدي الاكبر منذ أن زرعها  في قلب النظام العربي قادة النظام الدولي المتولد عن الحرب العالمية الثانية. هذه الحقيقة ظل يتوارثها جيل بعد جيل من القادة العرب حتى أنه يتردد الآن انه لو قدر وتأخر وصول الاسرائيليين الى يومنا هذا ، وأقصد في ظل توازنات القوة الدولية الراهنة ، لما قامت دولة إسرائيل.

يتطور التحدي الذي تمثله إسرائيل ويتلون بتطور السياسات الأمريكية تجاه فرض إسرائيل لاعبا أساسيا في مواجهة نظام إقليمي عربي يزداد ضعفا وانفراطا. يحدث هذا في ظل استمرار عمليات توسع اسرائيل في أراضي الفلسطينيين غير عابئة بمعارضة صورية من جانب العواصم الغربية ومعارضة عاجزة من جانب الدول العربية. لا شك عندي أن هذا التحدي الذي واجهته الدول العربية منذ نشأة نظامها الإقليمي وتسبب في خلق انفصام خطير في العقل السياسي العربي يقف وراء تعقيدات أخرى عطلت مسيرة النظام العربي وفي الوقت نفسه أنهكت علاقات كثير من الشعوب العربية بقياداتها السياسية. لا جدال في أن قادة الجامعة العربية في مرحلتها الجديدة سوف يأتون الى اجتماعاتها مزودين بمواقف ، ولو إرشادية في بداية الأمر، تحاول بها التصدي لهذا التحدي.

كان تطورا مثيرا ولا شك إقدام الصين على التدخل لتحقيق تفاهم بين المملكة السعودية وإيران. لم تحاول الاقتراب من الصراع العربي الإسرائيلي لارتباطه الوثيق، من وجهة نظرها على الأقل، بصراع آخر على مستوى أعلي، وهو الصراع او المنافسة المتزايدة إصرارا بين الصين والولايات المتحدة. ثم أنها لا  بد وأدركت أن سباق التسلح واحتدام الصراع بين العرب والفرس لن يخدم مصالحها وخططها لتعديل نظام وهياكل القمة الدولية. أتصور، أنا وآخرون، أن الصين تنتظر من الجامعة العربية مجتمعة ومن دولها منفردة خطوات إيجابية تجاه دعم مصالحها وأهدافها في الشرق الأوسط وفي الوقت نفسه تجاه دعم استقلالية القرار العربي.

ثالثا: الاعتقاد المتجدد بأن لا أمل في “عودة الروح” للنظام العربي ومنظمته القومية الا بالتكامل الاقتصادي.

لوقت طويل عانى العمل العربي المشترك من عجز شديد في خطط وممارسات التكامل الاقتصادي. توقفت مشاريع عديدة بعد ان وجدت السبيل للتنفيذ مع الطفرة المالية في اعقاب قرارات حظر تصدير النفط خلال الحرب العربية ضد إسرائيل في عام 1973. توقفت المشاريع ومعها تجمدت أنشطة مجموعة متميزة من خبراء التكامل في العالم العربي. كان مثيرا في أوساط دعاة العودة لتنشيط إيجابيات النظام القومي العربي ظهور بوادر اهتمام ببث أنفاس جديدة في جسد وعقل التكامل الاقتصادي العربي.

يعلم القاصي والداني أن نهضة تكاملية في اقتصادات العالم العربي سوف تعني بالضرورة نهضة تكاملية مماثلة في دفاعات الأمن القومي العربي. نعلم أيضا أن دولا في الجوار وإسرائيل بخاصة لن ترحب أو تشجع هذا التكامل، وان  جهودا مكثفة  ستكون مطلوبة تجاه مؤسسات  مالية واقتصادية لكسب تأييدها ودعمها، ومع ذلك كلنا ثقة في استطاعتنا تحقيق نقلة نوعية في مجال اليقين بجدوى العمل العربي المشترك وأداء أجهزته ومؤسساته ومنها المعطل حاليا ، هذه النقلة صارت  بالفعل جزءا جوهريا من حلم التجديد العربي.

لا أقلل من خطورة السلبيات والأمراض السياسية والاجتماعية المنتشرة في وضعنا الراهن، ولا أقلل من احتمالات انتفاضتها ضد أي دعوة لتحقيق التكامل الاقتصادي والأمن القومي ولكني أثق أن دعوة صادقة وجادة لتدشين عصر عربي جديد كفيلة بأن تطلق عقال مختلف المبادرات الإيجابية. تعبنا من استمرار الفشل وخيبات الأمل وسوء الأداء وتفاقم الأمراض السياسية وتفشي الفساد والخلافات غير المبررة بين دول في النظام العربي، ضقنا ذرعا بانقسامات داخل أوطاننا حول ذرائع أوحقائق هويات ثانوية، ضاقت الصدور بالعيش في ظل قيادات محلية ضيقة الآفاق أو قليلة الوعي بمحاسن العمل المشترك في الداخل كما مع الأشقاء في الخارج.

أتمنى لو اتفقنا على أن نعتبر أنفسنا أمام فرصة وتحدي. فرصة للنهوض يجب ألا تفوت وتحدي قوى خارجية يجب أن نقابله بالإصرار والأمل.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version