طلال سلمان

عراق مفارقات عربية بين احتلال اميركي وصاية دولية

يطرح مشروع الحرب الأميركية الظالمة على العراق مجموعة من المفارقات التي قد لا تؤثر على صورته كعدوان مكشوف يهدف إلى احتلال بلد عربي فائق الأهمية، ولكنها تفسر انعدام »المبادرات« أو »المساعي« أو »الاجتهادات« (فضلاً عن الضغوط!!) لابتداع حلٍ يجنّب العرب هذه الكارثة القومية الجديدة:
المفارقة الأولى ان الذرائع المطروحة لتبرير هذه »الحرب« ليست جديدة. الجديد فيها هو التوقيت… فلقد كان يمكن توجيه مثل الاتهامات المعلنة الآن ضد النظام العراقي قبل عام أو عامين أو ثلاثة أو أربعة، أي مع خروج أو إخراج المفتشين منه في العام 1998. لكن اختيار الذكرى الأولى لتفجيرات 11 أيلول 2001 موعداً لإطلاق شرارة هذه الحرب، ومحاولة الربط (المتأخر) بين النظام العراقي وبين »تنظيم القاعدة« قد »يعطي« الإدارة الأميركية بوصفها »الضحية« حق تحديد »عدوها« »عدو العالم«، وقد »يبرّر« لها بالتالي شن الحرب عليه، بمشاركة دولية واسعة تضم كل المتعاطفين معها، أعداء الإرهاب وضحاياه، إن أمكن، أو بمن حضر، كمثل حكومة طوني بلير البريطانية »المستعدة دائماً«، كما الكشاف، ومثل دول »أوروبا الجديدة« التي استولدتها إدارة جورج بوش.
المفارقة الثانية ان التوصيف الذي تسبغه الإدارة الأميركية على نظام صدام حسين يأتي متأخراً جداً (أكثر من ربع قرن!!) ومن خارج السياق الناظم »للعلاقة« بين واشنطن وبين هذا النظام، وهو سياق »تعاون« ولو بشكل مباشر وغير معلن، كما في حربه الطويلة 8 سنوات ضد الثورة الإسلامية في إيران، أو بشكل معلن وغير مباشر، كما في اجتياحه الكويت، أو بشكل غير مباشر وغير معلن، كما بصمت واشنطن حتى اليوم عمّا تسميه »المذابح التي ارتكبها نظام صدام حسين ضد شعبه، الأكراد خاصة والعراقيين عموما«..
يتصل بهذا أن تكون واشنطن قد انتبهت، فجأة، إلى حقيقة أن هذا النظام دكتاتوري ومعاد للديموقراطية ولا يحترم حقوق الإنسان!!
المفارقة الثالثة انعدام »الوسيط« السياسي المؤهل لبذل مساعيه الحميدة بين الإدارة الأميركية والنظام العراقي. حتى الدول الغربية التي جهرت باعتراضها على الحرب الأميركية لم تبادر الى الاتصال المباشر بصدام حسين، ولم توفد إليه بعثة أو موفدا منها »لإقناعه« بإسقاط الذرائع المعلنة والتي تبناها مجلس الأمن (إظهار البراءة من حيازة أسلحة التدمير الشامل)..
المفارقة الرابعة انعدام التواصل العربي مع صدام حسين، مباشرة وبصورة شخصية. (وحين تجرأ عمرو موسى فأقدم على ممارسة أبسط مهام منصبه تعرض لحملة تشهير شرسة، ولم

يجد عملياً من يدافع عنه، فضلاً عن تبني مسعاه..).
ليس بين العرب من أقدم على زيارة بغداد لمواجهة حاكمها بموقف عربي ما، مؤيد أو معارض، محذراً أو منذراً، فضلاً عن الاستعداد للتوسط. كأنما لا أحد من العرب يستطيع أن يتحدث جدياً إلى صدام حسين. ليس فقط أن هذا النظام قد لا يسمع، بل لأن طالب الكلام لن يجد الكثير ليقوله.
منذ سنين لم يقم رئيس أو ملك أو أمير عربي بزيارة صدام حسين..
ومنذ دهور لم يغادر صدام حسين بغداد، ولم يلتق مباشرة أي مسؤول عربي عالي المستوى، ولم يُعرف عنه أنه اتصل هاتفياً بأي حاكم عربي.
وبعض القادة العرب ممن اشتهروا »بصداقتهم« العريقة مع صدام حسين، كعلي عبد الله صالح، مثلاً، امتنعوا عن زيارته أو التواصل (العلني) معه، حتى لا يؤخذوا بجريرته.. عملاً بالحكمة الشعبية »يا روحي ما بعدك روح«!
المفارقة الخامسة أن الحملة الأميركية القاسية على »الأصدقاء التاريخيين« لواشنطن من بين القادة العرب ألزمتهم بالانشغال بالدفاع عن أنفسهم ومصير »عروشهم« أكثر من انشغالهم بمصير صدام حسين. وبالتالي فقد انصرف همّهم إلى استرضاء واشنطن بأي ثمن. وكان بديهياً أن يرجئوا الحديث معها عن العراق إلى ما بعد الاطمئنان إلى استعادة رضاها عنهم. (ربما تأتي في هذا السياق روايات العروض التي يطرحها البعض على صدام حسين بمغادرة العراق مع أركانه ومتعلقاته لكي يعيشوا بأمان، وبغير مساءلة في أي منفى يختاره!!).
لقد أربكت الحملة الأميركية أصدقاءها العرب كافة،
ذلك أنها استخدمت ضدهم »أسلحة تدمير شامل« بالمعنى العملي: طالبت من يرتكز حكمه على التنظيمات الدينية السلفية بالتخلص من هذه الركائز، وتعديل مناهج التعليم، والتخفيف من الرجوع إلى القرآن الكريم، لا سيما في كل ما يتصل من آياته ب»الجهاد«..
كذلك فهي قد أدانت من يرتكز على »التراتبية العشائرية« أو على »العصبوية الجهوية« أو على »القبضة الحديدية«، وطالبت الجميع باعتماد الديموقراطية.. فوراً وإلا!
المفارقة السادسة أن مناخ الحرب الذي فرضته الإدارة الأميركية قد كشف الطبيعة غير الشعبية ليس فقط للنظام العراقي، بل لمجمل الأنظمة العربية.
لقد تعذر اللقاء الشامل أو شبه الشامل، والفوري، في ما بينها لاتخاذ موقف موحد، ولو على قاعدة »بذل المساعي الحميدة« إن لم يكن برفض الحرب على العراق ولو من موقع المتحفظ على النظام… حتى اجتماع لوزراء الخارجية استدعى من المشاورات وقتاً ثميناً، أما »القمة« الممنوع انعقادها، كائنة ما كانت الطوارئ، فقد تبدل فجأة مكانها (عشية زيارة ملك البحرين واشنطن)، ثم شجر الخلاف على احتمال تعجيل موعدها… فالعجلة دائماً من الشيطان.
أما اللجوء إلى »الشارع« مثلاً فمحرّم تحريماً، والعقاب على مثل هذا »التهور« قد يكون شديداً… ثم من قال إن من سينزل إلى الشارع سيخرج منه بعد ذلك كما نزل؟!
المفارقة السابعة أن »العرض« الجاري التداول به همساً، والذي لا يجرؤ أحد على تقديمه إلى صدام حسين يقوم على معادلة بائسة ملخصها: أنقذ نظامك بالتضحية بجيشك وسائر أسباب قوتك، ثم: أنقذ نفسك بالتضحية بنظامك.
وقد يكون الباعث على التردد في تبني هذا »العرض« السخي أن واشنطن قد تعمّمه، أو لعلها قد لوّحت به فعلاً في وجه بعض »الأنظمة الصديقة«… لا سيما الأعرق في صداقتها!
المفارقة الثامنة أن دول أوروبا القديمة قد وجدت ما تبادر به، بمعزل عمّا إذا كانت مبادرتها (المنسوبة إلى فرنسا وألمانيا) جدية وعملية و»لائقة« أم لا.. لكن الدول العربية، مجتمعة أو منفردة لم تجد بعد ما تتبناه فتعرضه وتسعى لتحقيقه.
ولعل اللقاء الثلاثي في شرم الشيخ، أمس، والذي ضم إلى الرئيس المصري حسني مبارك كلاً من الرئيس السوري بشار الأسد وقائد ثورة الفاتح في ليبيا العقيد معمر القذافي، قد توصل إلى »مسودة مشروع ما«، أو »اقتراح أولي« ما، ولعل عمرو موسى يكلف أو يكلف نفسه مرة أخرى بالسفر إلى بغداد بعرض ما صادر عن العرب مباشرة، وليس بوصفهم »ناقلي الكفر« أو الإنذار الأميركي، كما أشيع عن بعض السعوديين.
المفارقة التاسعة أن هذه المبادرة الأوروبية، التي تنصل منها أصحابها، تكاد تكون أسوأ من مشروع الحرب الأميركية تمهيداً للاحتلال العسكري للعراق، بما يجعل كل الجزيرة العربية من اليمن وحتى الكويت، تحت الاحتلال الأميركي المباشر، ثم يحمل هذا الاحتلال إلى الحدود السورية إذا تمّ لها ما تخطط لتنفيذه ضد العراق.
فالمبادرة الأوروبية (المزعومة؟) تعرض وصاية دولية شاملة على العراق، في ظل الاحتلال الأميركي الشامل لمنطقة الجزيرة والخليج..
إن بنود هذه المبادرة، كما تمّ الترويج لها، ربما بمسعى من واشنطن لتشويهها، تتضمن كل ما قد يلحقه الاحتلال العسكري من تدمير مادي وأذى معنوي بالعراق كعراق وليس بنظامه، فهي أشبه بوضع يد دولية على العراق، تحت المظلة العسكرية الأميركية دائماً. لعلها الصيغة الكاريكاتورية للشراكة الأميركية الأوروبية في النفط العربي، بمنابعه وطرقه وأسواقه، فضلاً عن عائداته الهائلة.
إنها الحرب… وما يجري علناً هو بعض جولاتها ما قبل العسكرية!
لكن الضحية هي الضحية… والضحية هنا تعني العرب جميعاً بعنوان العراق!

Exit mobile version