طلال سلمان

عراق »خارج سياسة« في مواجهة خطر حرب اهلية

لا تملأ التهديدات المتوالية بالويل والثبور وعظائم الأمور التي يتناوب على إطلاقها حكّام الواجهة في العراق، والتي طاولت إعلان حالة الطوارئ واستخدمت في بعض الحالات لغة الحجاج بن يوسف، بطريقة كاريكاتورية، الفراغ السياسي المدوي الذي يعيش في »أفيائه« العراقيون، أو أنهم بالأحرى يموتون تحت ظلاله الوارفة…
… فالعراق، أيضاً، هو الآن »خارج السياسة«، وهو مرشح مثل فلسطين لأن يبقى خارجها إلى أمد بعيد: لا حياة سياسية في الداخل، ولا مشروع سياسياً لمستقبله يحظى بالرعاية (عربياً بالأساس، أو حتى دولياً) تحمله وتدعو له قوى سياسية حية وفاعلة وقادرة على استقطاب الآخرين بصورة لغد ما لهذا البلد العظيم الذي أكمل الاحتلال مهمة الطغيان في تدميره، دولة ومؤسسات وشعباً محطوم الإرادة والقدرات فاقد الثقة بنفسه يعيش من خوف الموت في موت غير معلن.
حكومته التي عيّنها الاحتلال وسلمها »دكتاتور العراق« »خرقة السيادة«، تعوم في الفراغ: لا هي تستطيع الادعاء أنها تعبّر عن إرادة العراقيين، ولا هي تستطيع المبالغة في قدراتها بحيث توفر »ظروف الأمن والأمان« التي تتقدم عند العراقيين على كل ما عداها، برغم التهديدات الصارمة بل والمهينة التي تناوب على إطلاقها »العلاوي« وبعض وزرائه والتي زايد عليه فيها »الياور«، أمس، فضلاً عمّا صدر عن وزراء الداخلية والدفاع و… حقوق الإنسان، الذي اكتشف أن »للإرهاب« مصدراً وحيداً، عربياً بالضرورة، فكاد ينسب كل ما شهده ويشهده العراق من تفجيرات واغتيالات وسيارات القتل العشوائي وعمليات الخطف للابتزاز المالي، إلى 99 معتقلاً عربياً… ونسي المئتي ألف جندي أميركي وعشرات الألوف من المرتزقة الأجانب الذين استوردتهم الشركات الأمنية من أربع رياح الأرض، وأطلقتهم لحراسة شركات النهب المنظم واحتكار الامتيازات والوكالات الأجنبية و»التصفيات المقصودة« للمنافسين والمزاحمين… بغير أن ننسى رجال المخابرات الإسرائيلية وجمعيات »لصوص بغداد« متعددة الجنسيات!
هناك طوفان من الأحزاب والجبهات والتنظيمات والهيئات والمنتديات والجمعيات السياسية (صراحة) أو المموّهة، بمقرات ولافتات ضخمة وصحف (بالعشرات) وشعارات وأعلام وقيادات وأطر تنظيمية ومطالب…
كذلك فهناك عشرات وربما مئات من الجماعات الدينية والطائفية، بعضها سلفي وبعضها الآخر سلفي على السلفي، بعضها »وهابي« وبعضها سابق على الوهابية، بعضها ولدته التطورات خلسة وأعطته شعاراته المرتبكة التي تقدم »عداواته« الطائفية على مهمته الوطنية في مقاتلة الاحتلال.
وهناك مخلفات صدام حسين التي يجتمع في أحضانها رجال عصابات وضباط كان لهم نفوذهم العريض وامتيازاتهم المذهبة، ووجهاء عشائر كان قد »اشترى« ولاءها لمواجهة البعثيين الصادقين أو من تبقى منهم، أو لإرهاب »المعارضين« تارة تحت الشعار الطائفي، وطوراً تحت الشعار القومي إلخ…
إنها فوضى مسلحة مطلقة يفتقد معها العراقيون الأمن والأمان.
فإذا أضفنا إلى مجموع هذه العوامل الفقر المدقع والعوز وذل الحاجة وضآلة الدخل (لمن يعمل..) وافتقاد فرص العمل في دولة معطلة بالكامل، مدمرة المؤسسات مشلولة القدرات محدودة الإمكانات،
وإذا ما انتبهنا إلى فقدان المرجعية الشرعية، بالمعنى الوطني وليس السياسي فحسب،
وإذا ما انتبهنا إلى »قوى الشر« التي تنفخ في جمر الحساسيات الطائفية والمذهبية والعرقية، لتكون فتنة، ولتشعلها حرباً أهلية تدر على منظميها الثروات الطائلة والوجاهة والنفوذ، وقد تحملهم إلى السلطة غداً، ولو من باب »اتقاء خطرهم« أو »شراء ولائهم«، فأفضل حارس للاحتلال مستبيح السيادة هو عصابات القتل والاغتصاب والخطف للابتزاز.
وهكذا يضيق الخيار أمام العراقيين حتى يصبح حصاراً بين سلطة احتلال أجنبي اغتالت السيادة وأسقطت ما كان تبقى من هياكل الدولة، وبين »سلطة محلية« بلا أي شرعية وبلا أي قاعدة شعبية وبلا قوة ذاتية، تطلق التهديدات على مدار الساعة بينما الكل يعرف أنها ستضرب إن ضربت بسيف الاحتلال، لأن ألسنة رموزها تظل أعجز من أن توقف اعتداء، أو تمنع سيارة مفخخة من أن تنفجر بمجاميع من المواطنين العراقيين المقهورين منذ عشرات السنين، المفقرين والمحرومين من هناءة العيش… ولو في ظل العوز والحاجة!
كيف، إذاً، يمكن أن نتخيّل مستقبل العراق والعراقيين؟!
إن تهديدات علاوي والياور لا يمكنها أن تملأ الفراغ السياسي، خصوصاً أن »حكومة السيادة الواجهة« المسلّم بشرعيتها الموقتة بقوة الأمر الواقع، لا تملك من أسباب القوة الفعلية غير »جيش الاحتلال« الذي »سيضرب« بطلب منها، وستتحمّل هي المسؤولية والغرم بينما يجني الاحتلال الغنم تاركاً دماء العراقيين في ذمتها…
مع ذلك، ففي غياب أي أمل بحل آخر، يكشح الغيوم السوداء التي يتلبد بها الأفق منذرة بمجازر أفظع ممّا شهدنا قد تمهّد لمسلسل من الحروب الأهلية التي يمكن أن تحوّل الاحتلال إلى سبب لحياة العراقيين ولو كانت خطراً قاتلاً لسيادة العراق وربما لكيانه السياسي ووحدة شعبه.
مع ذلك كله، لا تكفي الجملة المذهبة لغازي الياور »إن الاحتلال ذهب« كحل للمعضلات العراقية.
إن جملة مذهبة كهذه تكفي لكشف طبيعة هذا الحكم الهزيل المغشوش والغشاش الضال أو المضل فضلاً عن عبقريته الفذة.
والدرس واضح: خارج السياسة لا تعود الحرب الأهلية مجرد احتمال بل تتحوّل إلى خطر داهم باعتبارها الثمرة المرّة للطغيان والاحتلال معاً، باعتبارهما السبب والنتيجة!

Exit mobile version