طلال سلمان

عراق بيع نفط محتل

وفّرت »دبي« الإماراتية الفرصة لتعويض ما فات، أو لاستكمال ما بدأ الإعداد له في »الشونة« الأردنية، أي: طرح العراق في سوق المناقصة الدولية، وبالطبع تحت إشراف حاكمه »المدني« باسم الاحتلال العسكري الأميركي.
العراق للبيع… وهل أفضل من »دبي« قاعة للمزادات؟!
ذلك أن دبي لم تكن يوماً ولا في طموحها أن تكون عنواناً للوطن العربي. إنها مشغولة بما هو أجدى من السياسة وأربح.
ومع أن »دبي« هي جزء لا يتجزأ من »دولة الإمارات العربية المتحدة«، إلا أنها وبقرار سياسي واع »دولية« أو »أممية« أو »معولمة« أكثر منها عربية. وهي غنية بأفكار أسرتها الحاكمة، (وبالذات منهم ولي عهدها)، التي قادت تجارها في مغامرة فريدة في بابها، قوامها: الشجاعة في الاقتباس والمغامرة في الابتكار والمبادرة إلى تعويض النقص الفاضح في »عواصم القرار« العربية، عواصم السياسة والثروة والأفكار والثقافة والشعوب العربية. وكثيراً ما اتهم الشيخ محمد بن راشد بأنه »مقامر« ثم ثبت أنه »صاحب رؤية« دقيق الحساب، وأن ثيابه التقليدية ولهجته البدوية وبساطته الظاهرة وقلّة العديد من أهل البلاد الأصليين، كل ذلك لم يمنعه من الاندفاع إلى أعالي البحار ليحوّل المرفأ الصغير إلى مركز دولي لكل أصناف التجارة والتبادل والخدمات والتقدم العلمي.
وليس بالمصادفة أن أشهر مبنى في دبي (الآن غدا »الأعتق«) قد حمل منذ سنوات طويلة اسم »مركز التجارة الدولي«… فالطموح كان يتجه دوماً نحو مزيج من أسواق المال في نيويورك وأسواق الخدمات على أنواعها جميعاً في هونغ كونغ، ثم صار بعد التطورات السياسية في تلك الجزيرة الصينية المدوّلة أن تكون دبي هي الرديف إن لم تكن البديل في الشرقين الأدنى والأوسط.
»دبي سوق«، يقول الشيخ محمد بن راشد المكتوم. وهي قد نجحت في أن تقدم نفسها »واجهة مضيئة« لنجاحات العولمة. مع العولمة لا ضرورة للهوية الوطنية.
وها هي دبي قد »اشترت« وكاستثمار ناجح اجتماعات وزراء المال وحكام المصارف المركزية والمصرفيين ومؤسسات الاستثمار التي تعقد الآن على هامش اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لا تهم الكلفة، كأن تبني »مدينة صغيرة« وذات أبراج طبعاً، خلال زمن قياسي، الربح سيكون أعظم من أي توقع…
* * *
أهم المعروضات في سوق دبي، الآن، وبمعزل عن حسابات أهلها، هو: العراق، كل العراق!
العراق بكل خيراته واحتياجاته، بكل جوع شعبه وتعطشه للعودة إلى الحياة، بكل مصادر الثروة فيه صناعية وزراعية وكفاءات علمية، وبكل النقص الذي عانى منه طويلاً والذي يمتد من الهاتف إلى لاقط الفضائيات إلى إعادة بناء شامل لكل ما دمرته المغامرات العسكرية لحاكمه الطاغية ثم »أنجزت المهمة« بالحصار الدولي الذي فرض عليه بقرار أميركي منذ ثلاثة عشر عاماً فأذل شعبه بالجوع إلى جانب الطغيان!
لقد أرسل الحاكم الأميركي بضعة من »الوزراء« الذين عيّنهم من داخل فرمانه بإنشاء »مجلس الحكم الانتقالي«، إلى هذه الاجتماعات التي يحتشد فيها حيتان المال وأقطاب الصفقات العظمى، لكي يعرضوا العراق للبيع!
هكذا، وبصراحة مطلقة، قالها »وزير« المالية في العراق تحت الاحتلال، كامل الكيلاني: الملكية مفتوحة للأجانب في جميع القطاعات!
لكن الكيلاني الذي قرع الجرس إيذاناً بفتح المزاد لم ينس وصية »الحاكم« الأميركي الذي تغيّب بحجة انشغاله بأمور أهم، فأعلن بوضوح: كل ما في العراق للبيع ما عدا النفط!
النفط العراقي لتعويض الدم الأميركي الذي أريق في »حرب التحرير«! هل يعادل نفط الأرض جميعاً قطرة دم بذلها »المارينز« أو »فرسان الجو« أو قادة طائرات القتل الجماعي من طراز ب 52، أو مهندسو دقة الإصابة ممن أطلقوا قاتلة المدن صواريخ كروز؟!
هل تهم أسئلة من نوع:
ما صفة بول بريمر، غير كونه الحاكم باسم الاحتلال، لكي يقرّر بيع العراق (ودائماً ما عدا نفطه الذي يحتفظ الاحتلال الأميركي به لإدارته وشركاته الأخطبوطية)؟!
وما صفة الكيلاني و»حكومته« و»مجلس الحكم الانتقالي« جميعاً، حتى يجيء بهذا العرض إلى »سوق نخاسة الدول« وغيلان المال المحتشدين في هذه المدينة الباهرة، فيقدمه وكأنه الإنجاز الأخطر للتحرير… تحرير العراق من مصادر ثروته؟!
ما مصدر »شرعية« بريمر غير مدافع الاحتلال؟!
وما مصدر »شرعية« الكيلاني وحكومته ومجلسها المرجع غير المدافع نفسها؟
هل الكيلاني ثمرة انتخاب ديموقراطي في بلد يحكمه أهله وتقوم دولته على أساس دستور ونظام حكم محدد الهوية والوجهة السياسية الاقتصادية؟!لقد عرف العرب، عبر تجربة مصر في بيع »القطاع العام«، قبل تجربة »الدول الاشتراكية« سابقاً وفي طليعتها الاتحاد السوفياتي الذي عاد روسيا، نموذجاً فذاً لنهب الثروة الوطنية تحت عنوان »الخصخصة« وبيع منشآت القطاع العام ومؤسساته المنتجة تحديداً (المصانع، الفنادق، المصارف إلخ).
الخصخصة تنتهي بالضرورة عند المافيا، والمافيا هي أحد عناوين »العولمة«، لا سيما في العالم الثالث والبلدان المتخلف اقتصادها عموماً.
وغني عن البيان أن العراق، اليوم، وهو تحت الاحتلال، مدمر المرافق، مجوّع شعبه، تجتاحه الحاجة والعوز إلى كل أسباب الحياة، فضلاً عن أسباب التقدم، أعجز من أن يكون شريكاً أو طرفاً صاحب قرار في أي صفقة تتناول وسائل الإنتاج فيه.
إن الدخول إلى العراق، بما في ذلك دخول العراقيين، يحتاج إلى سلسلة من الأذونات، فكيف بالاستثمار فيه؟!
هل من سوء الظن الافتراض أن مصادر الإنتاج في العراق ستنتهي إلى أيدي عدد محدود من التروستات الاحتكارية الأميركية المعولمة (مصارف وشركات كبرى)؟!
إن الاحتلال يبيع العراق لنفسه.. أو إنه »يشتري« العراق من نفسه!
لقد أدى بيع القطاع العام في مصر، في صفقات مشبوهة يعرفها المصريون بالتفاصيل والأرقام، إلى تجويع الشعب المصري ومفاقمة أزماته المعيشية، مما أضعف الدولة وشرّد الكفاءات والطاقات المنتجة في أربع رياح الأرض.
وكانت تلك الخطيئة المميتة في جملة الأسباب التي أضرت بدور مصر، سياسياً، على المستوى العربي، كما على المستوى الدولي، فالفقر مذل، وهو »لو كان رجلاً لخرجت إليه الناس بالسيوف«.
* * *
العراق للبيع، وفلسطين تستجدي صدقات الدول المانحة،
ومناظر الإذلال في العراق تحت الاحتلال وفي فلسطين تحت الاحتلال تسهّل عملية بيع مصادر الثروة في أرض الرافدين، وقد تبرّر التراجع السياسي بل الانحراف هنا وهناك.
والثروات العربية.. وعلاقة هذه الثروات بأهلها، الشعوب العربية؟! وأثرها على القرار السياسي للدول العربية، ودورها في تقدم العرب وفي صياغة مستقبلهم الأفضل؟!
إن مجرد طرح مثل هذه الأسئلة الآتية من الزمن الغابر يصبح أشبه بطرائف يتندر بها هؤلاء المحتشدون في الواحة الذهبية: دبي…
ألم ترَ إلى العلم الإسرائيلي كيف ارتفع في هذه العاصمة الثانية لدولة الإمارات العربية المتحدة، بغير اعتراض جدي، وبذريعة أن المؤتمر دولي أممي، إما أن يقبله من دعاه بكل أعلامه أو يتخلى عنه لغيره من المستعدين لأن يدفعوا ثمن استضافته مهما بلغت أرقامه ارتفاعاً؟!
يكفي أن وزير المال الإسرائيلي قد تذرع بانشغاله في أمور أخرى، فغاب عن هذا المؤتمر منيباً عنه وزيراً في وزارته، إلى جانب حاكم البنك المركزي الإسرائيلي.
غاب بريمر، وغاب نتنياهو: إذاً فليبدأ المزاد على العراق، أما المناقصة على فلسطين فمرجأة في انتظار »خريطة طريق« إلى مؤتمر الدول المانحة في مدريد بعد عام من القتل المنظم لشعبها والتدمير المنهجي لأسباب الحياة فيها.
* * *
دبي سوق…
ولكنها لم تكن، ولم يكن في نية من خطط لإقامتها أن يجعلها سوقاً لبيع الأوطان العربية.
… والمزاد شغال: على أونه، على دوي، على تري… من يشتري؟!

Exit mobile version