طلال سلمان

عجلوا محاكمة لتبرئة حكم

لا جدال في أن اللبنانيين في قلق عظيم على حاضرهم ومستقبلهم،
إنهم يعانون من اهتزاز في اليقين، يزيد من خطورته هذا الانقسام النافر بين أهل السلطة الذي يهز صدقيتها مجتمعة… فكيف لا تشك وأنت تسمع من بعض السلطة ما يكذّب أو أقله يشكك في ما يقوله البعض الآخر منها؟!
ولقد جاءت حملة الاعتقالات الأخيرة، والتي لم تكن أسبابها واضحة بالقدر الكافي، فضلا عن أن تكون مقنعة ومبررة، لتكشف مدى عمق الانقسام داخل السلطة، بحيث رأى بعضها في هذه الحملة »مؤامرة« عليه، بينما كان البعض الآخر يبررها بأنها خطوة وقائية لا بد منها »لحماية السلم الأهلي«.
أما المواطن العادي فكان يعاني من حيرة عميقة: من يصدق ومن يكذب من أطراف السلطة المشتبكين في ما بينهم، والذين تتبدى خلافاتهم وكأنها تتجاوز السياسات اليومية الى جوهر الموقف من مسائل أساسية بينها الحفاظ على جذوة المقاومة في الجنوب كاحتياطي استراتيجي لتحرير مزارع شبعا، وبالتالي الربط مع سوريا في جهدها لاستعادة جولانها المحتل، واستطرادا الامتناع عن نشر الجيش بامتداد الحدود الجنوبية لطمأنة اسرائيل، ولو أدى ذلك الى تعارض علني مع الأمم المتحدة سرعان ما ردت عليه بالتعديل الأميركي للقرار حول مهمة الجنود الدوليين، إذ مهد لتحويلهم الى مجرد »مراقبين« في لبنان وللبنانيين بما يفيد اسرائيل ويريحها، بينما هم أضعف من أن يمنعوا عدوانها المحتمل دائما وأعجز من أن يطمئنوا اللبنانيين الذين دفعوا الكثير من دمهم حتى حرروا أرضهم من الاحتلال الذي استمر اثنين وعشرين عاما بعد صدور القرار 425 الذائع الصيت.
في البداية لم يفهم هذا المواطن التائه بين »المواقف« الرسمية السبب الداعي الى حملة الاعتقالات التي شملت بعض رجال الظل في السياسة ومعهم عشرات الطلاب والشبان والشابات المتحمسين الى حد التعصب لآرائهم.
وكان رد الفعل الطبيعي: استنكار هذه الحملة التي لم يسبقها أي تمهيد، والتي بدا وكأن الحكم منقسم حول دواعيها، بل إن »الجزء المدني« من الحكم رأى فيها »مؤامرة« عليه، تمهد لعسكرة السلطة في لبنان، بما تعنيه »العسكرة« من تفرد في الرأي ودكتاتورية في القرار وكم لأفواه المعارضين…
أي أن بعض الحكم رأى أن حملة الاعتقالات وإن تركزت على أطراف معارضة تقليديا إنما تستهدفه أكثر مما تستهدف المعارضين »العلنيين«!
وكان سهلا الاستنتاج، في ضوء هذا المنطق، أن السلطة قد زجت بالجيش في عملية ظاهرها أمني وباطنها سياسي، كيدي وانتقامي ليس فقط من بعض المعارضين خارج الحكم، ولكن من »المعارضين« داخل هذا الحكم، والذين لا يرون رأي »مركز القرار« الذي صار في القصر الجمهوري، بعيدا عن مجلس الوزراء برئيسه وغالبية أعضائه »المدنيين«.
كان سهلا بروز عبثية التقسيم النوعي للعمل بين أطراف الحكم بحيث يتولى بعضه الشأن السياسي ومعه بالاستطراد الشأن الأمني، في حين يهتم بعضه الآخر بالشأن الاقتصادي وحده مع مساحة للحركة في الداخل والخارج يؤكد فيها جدارته وقدراته الاستثنائية!
الى ان أُذيع »الشريط« المتضمن اعترافات بعض الموقوفين حول اتصالات متجددة، او قديمة لم تنقطع، مع مسؤولين اسرائيليين، لا يهم ان كانوا كباراً او صغاراً، او انهم من رجال الحكم السابق او الحكم الحالي في تل ابيب.
وتوالت المفاجآت وبالتالي الصدمات!
كان اللبنانيون قد اعتبروا ان موضوع التعامل مع اسرائيل قد بات من الماضي، وان انجاز التحرير بجهد المقاومة المعزز بدعم الدولة والشعب لها، ومحاكمة العملاء والمتعاملين، والادانة الشعبية الشاملة لهم، والامتهان الذي تعرض له من لجأ منهم الى »الحامي الاسرائيلي« قد طوى تلك الصفحة السوداء، وبات من الضروري تركيز الجهد على استعادة هؤلاء الى الوطن واعادة الدولة الى تلك المناطق التي عانت الامرين اضطهاداً وقتلا واحراقاً وتدميراً طول 22 سنة ونيفا.
آخر المفاجآت: توجيه التهمة الى بعض العاملين في الصحافة بالضلوع في هذه الاتصالات السرية مع مسؤولين اسرائيليين.
ومع ان هذا الاتهام، حتى في حال صحته، لا يمس الا من يثبت عليه الجرم، سواء أكان سياسياً ام من رجال الاعلام، فان الصحافة معنية الآن بظهور الحقيقة كاملة لا لبس فيها ولا ابهام بحيث لا يتبقى مجال لسوء الفهم او سوء الظن او سوء التقدير.
واذا كان المتلاقون في قرنة شهوان قد استهولوا ان يُتَّهم واحد منهم بالاتصال مع العدو، فطالبوا بكشف الحقيقة كاملة مؤكدين ضمناً ان مثل هذا الاتهام لو ثبت فإنما يشكل خروجاً على بيانهم التأسيسي القاطع الوضوح في هذا الشأن، بقدر ما يشكل خرقاً للمحرمات السياسية يستوجب العقاب، فمن باب اولى ان يكون للصحافة الموقف نفسه من المنتمين الى جسمها ممن وجّهت اليهم مثل هذه التهمة.
ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته.
ولا مجال للخروج من تيه الحيرة الا بتسريع التحقيق واعلان نتائجه تمهيداً لمحاكمة علنية في ظروف طبيعية لا شبهة حول توفير الضمانات فيها لكافة المتهمين،
كذلك فالتهمة شخصية، اي انها تعني شخص المتهم ويجب الا تمس غيره، من اهله او من انصاره او ممن يرون رأيه ويقولون قوله في السياسة.
في هذه اللحظات بالذات يجب ان تؤكد السلطة التزامها ليس فقط بروح العدالة، بل قبل كذلك التزامها بالديموقراطية كشرط حياة للبنان، وان يظهر بوضوح ان السبب الاول والاخير للاتهام والمحاكمة ومن ثم الحكم هو الاتصال بالعدو، وكل ذلك يعني شخص المتهم تحديداً وليس انتماءاته الفكرية او آراءه السياسية او بشكل خاص الى معتقده الايماني.
الحقيقة وحدها، والعدالة مطلقة، والمحاكمة السليمة والتي لا إشكال حول اجراءاتها او وسائلها، هي المخرج الفعلي من هذه الصدمة النفسية الجديدة التي اضافت الى هموم اللبنانيين هماً ثقيلاً كانوا يفترضون انهم تخففوا منه بانجاز التحرير.
والحقيقة وحدها هي التي تبرئ الحكم من الغرض، وتعيد اليه بعض الاعتبار الذي خسره بسبب انقسامه الذي كاد يطاول ثوابت اليقين في الموقف الرسمي، وهز بالتالي ثقة اللبنانيين في دولتهم.

Exit mobile version