طلال سلمان

عتاب الأيام

اتصلت لتقول “بيتي ثلاجة. الشمس لا تزورنا. الريح الباردة تهب علينا من كافة الجهات الأصلية. جغرافياً، بيتك أحد أقرب بيوت الأصدقاء إلى بيتنا. عوّدتنا اللجوء إليه في أوقات الحاجة، واليوم يوم حاجة. حاجتي اليوم هي الدفء. الشمس من على البعد أراها أعطتك بكرم فياض دفئاً غزيراً وأنت لن تبخل علينا ببعضه إذا أنا طلبت، وها أنا أطلب منك قبول عرض استضافتنا في بيتك وهو العامر دائماً بخيرات كثيرة، واليوم عامر بشمس جسورة لا تغيب ولا تخيب. ولعلها تكون فرصة لنفكر ونناقش مستفيدين بهدوء المكان وراحة البال ورغباتنا المنحازة هذه الأيام إلى الحوار بالكلمات. أسمح لي أن اصطحب موضوعات سياسية وإنسانية حان وقت طرحها من دون خوف أو خجل أو تردد وقضايا شخصية لا أطمئن إلى رأي غيرك فيها”.

***

اتصلت بدوري وكتبت ما يلي رداً على رسالتها؛ “أهلاً بك في بيتي ضيفة عزيزة. أطمئنك على إشباع حاجتك للشمس، فالشمس في بيتنا اليوم لم تترك حيزاً إلا وافترشت معظم مساحته. ولكني أحذرك. هذه الشمس ليست كالشمس التي استمتعت بها في بيتي في زيارتك السابقة. جاءتنا هذه المرة وقيظها شديد ولمستها للجلد حارقة. تذكرين ولا شك أن شمس مصر في أواخر الشتاء تكون في العادة كالحرير ناعمة اللمسة والملمس. تذكرين أيضاً أن للربيع في مصر ريحاً استحقت صفات النسيم منذ تعلّمت كيف تداعب شعر العاشقات على ضفاف النيل وفي حدائق قصور ومعابد القدماء وأمام أفران الخبز في قرى مصر المترامية على أطراف الصحراء. أما أنا فأذكر  كل هذا وأكثر منه. أنا شاهد على لحظات متعة بلا قيود، متعة استسلام شعر فتيات الحي كما فساتينهن القطنية الفضفاضة لمداعبات هذا النسيم. نعم، كنت شاهداً على يد تلملم أطراف فستان منتعش وأخرى تلاحق خصل شعر متمردة، خصل تجرب التحرر أو تستعد له. لكني يا عزيزتي، أحذرك من نسيم هذا الربيع، فلا هو نسيم ولا الربيع ربيعنا الذي غنى له كل نجوم البلد. نسيم هذه الأيام ريح صرصر، بارد كريح الشمال حين تخاصم الشمس، أو ساخن كريح الجنوب حين تنافسها، وهي ترد خصومتهما بأقوى ما تملك في ترسانتها، ترد من قلبها بقيظ كالنار”.

***

صديقتي استأذنت  لتكتب  فكتبت؛ “صديقى وعزيزي، نعم أذكر كما تذكر رغم مسافات تفصل بين عهودك وعهودي. أذكر الخطط الساذجة ولكن الفعالة التي كنا معشر التلميذات نسهر الليالي نعدها، ثم ليالي أخرى  نصحح نقاط ضعفها ونستعد ببدائل. كم خططنا مع المعلمات القريبات إلى قلب الست الناظرة والمشرفة الاجتماعية والوكيلة المشرفة على ميزانية المدرسة لنحصل على موافقة لتنظيم رحلة الربيع إلى القناطر الخيرية.  حملنا السر لسنوات. كنا نتبادل التفاصيل أولاً بأول مع الصبيان في المدرسة المجاورة، وهؤلاء كانوا يخططون بدورهم في مدرستهم. مركب واحد للمدرستين وبرنامج واحد للترفيه. هكذا كانت رحلاتنا لشم النسيم مختلطة. ذكريات بهيجة صاغتها معنا أحلى أيام العام، أيام ربيعه”.

***

“أذكر أيضاً الروايات العديدة التي سمعتك ترويها عن مغامرات الشباب في أيامك وكيف أنها لم تختلف كثيراً عن مغامرات شباب أيامي. ولكن ما يدهشني حقيقة ولن أكتمه في نفسي أطول مما كتمت هو هذا التغير الذي ألمحه واضحا في مزاجك وكلامك وتصرفاتك. أنت إنسان تعرف كيف ومتى تكتم. نعرف قدرتك على أن تتحمل الضغوط إن زادت وتصبر على التجاوزات إن بولغ في ارتكابها. يبدو لي يا صديقي إن بعض قدراتك بدأت تخونك وأنك الآن في حيرة حقيقية من أمرك. بكلماتي هذه أعرف أنني أتدخل في أمر يخصك؟. نعم، ولا اعتذر. أنا واحدة من عدد غير قليل تركناك تمخر في بحارنا بالليل كما بالنهار، وبالصيف كما بالشتاء، لم نسألك يوما أين المقر وإن سألنا ما كنت لتقر. كثيرون من معارفك لم يعرفوك كما عرفناك. راحو يرتبون شواطئهم، أفرغوها من ساكنيها وجملوها، على أمل أن تحلو في عينيك مرافئ ترسو عندها فإن ارتحت سكنت. وما كنت لتسكن، وهذا رأيي يا عزيزي تعرفه وتحترمه”.

“قيل لي قبل عامين وكنت على سفر أنك كتبت تعلن أنك تعيش في تلك الأيام أحلى أيام عمرك. سعدت بما سمعت. لم أتفاجأ. أذكر تماماً كيف أن نبضات قلبك أذاعت سرك قبل لسانك أو قلمك. عيناك، حروف كلماتك، لمسات أصابعك، تأملاتك وصلواتك، دروسك وتوصياتك، كلها نقلت لنا عذوبة الحياة كما تحياها. كانت انطباعاتك ومقالاتك وكثير من تصرفاتك  تحمل رسالة لكل من هم في عمرك. عيشوا السنوات الأخيرة من عمر طويل بنفس اللهفة التي تقبلون بها على آخر قضمة في قطعة الشوكولاتة وآخر “لحسة” في كرة الآيس كريم وآخر لحظة في لقاء حميم”.

***

أجبتها بإيجاز؛ “صديقتي العزيزة، نعم كانت أحلى أيام العمر ونصيحتي قائمة إلى طوال العمر كافة. حاولوا لتكون هذه المرحلة من حياتكم أحلى مراحل العمر بالفعل. تعالوا نقاوم آثار هذه الهجمة المتوحشة لفيروس يكاد لا يرى. لم أتصور يوماً أني سوف أعيش لأرى الربيع الذي أعشق يأتي  سخيفاً، يأتي متخفياً في شكل فصل متسكع. كل شيء صار غريباً. حتى العالم الخارجي رأيناه يا صديقتي وقد انحدر إلى هذا الدرك المتدني في السياسة والاقتصاد والأخلاق. ما أكثر الذين يكذبون ويقتلون ويسرقون وينهبون ويفسدون كما لو أن نهايتهم اقتربت ولن يحاسبوا. فجأة صارت نشرات الأنباء مصادر لبث الشر وإثارة الكره. يتوقعون حروباً من أجل الاستحواذ على اللقاحات أو منعها عن الغير ويستعدون لابادات جديدة ضد أقليات من كل نوع. يحذرون من أخطار مجاعات وهجرات وانحلال مجتمعات ومن استعمار جديد أسوأ من كل ما سبق.

صديقتي، سمعتك تعاتبين أيامنا. لا تظلميها. أظن أننا حملناها فوق ما تحتمل فراحت ترد لنا قسوتنا بعتاب. الأيام تعاتبنا”.

ينشر بالتزامن مع “الشروق

Exit mobile version